مقال رأي |
في العام الماضي، وأثناء تفشي الموجة الأولى من فيروس كورونا، تلقت جهاتٌ في السلطة الفلسطينية اتصالًا من السلطات الإسرائيلية بشأن التخلص من جثة أحد المتوفين بسبب مضاعفات كوفيد 19. كانت تلك جثة عامل مصري يعمل في مستوطنة، دخل البلاد من خلال مطار بنغوريون وبتأشيرة عمل إسرائيلية، من دون حتى أن يمر بالضفة الغربية. منطقيًا، لم يكن للسلطة الفلسطينية أي علاقة بهذا العامل، فهي لم تسمح له بالدخول أو تمنحه ترخيص عمل، كما أنها لا تدير أصلًا المنطقة التي يعمل أو يعيش فيها. لكن على أرض الواقع، لم يكن هذا الطلب الغريب غريبًا جدًا، بقدر ما أنه يمثل صورة مكثفة للدور الوظيفي الذي تلعبه السلطة الفلسطينية في ذهن الإسرائيليين، أي إدارة الأجساد غير اليهودية، أو غير المرغوب بها بتمويل من المجتمع الدولي ومؤسسات صناعة السلام المتحمسة. للأسف تصعب المجادلة أن السلطة لم تتساوق بدأب واجتهاد مع هذه الصورة.
لا يشمل هذا الدور الوظيفي التعامل مع الأجساد غير المرغوبة بها فقط، ولكن أيضًا "العمل الوسخ" والمكلف
لا يشمل هذا الدور الوظيفي التعامل مع الأجساد غير المرغوبة بها فقط، ولكن أيضًا "العمل الوسخ" والمكلف. هذا ليس تحليلًا شخصيًا، بقدر ما هو تجميع لشهادات واعتراقات من خطاب السلطة نفسها وتعاملها مع عدة قضايا، مثل صفقة القرن والجائحة والضم. على سبيل المثال، هدد صائب عريقات، "إسرائيل: بأنها ستضطر إلى جمع القمامة في الضفة الغربية في حال ضمت مناطق جيم، في اعتراف ضمني أن السلطة الفلسطينية تريح "إسرائيل" من هذا العبء. بالنسبة لصفقة القرن والضم، فإن الرد الوحيد الذي كان بحوزة العديد من المسؤولين بما في ذلك الرئيس محمود عباس، هو التهديد بحل السلطة. كانت هذه صورة دالة وبليغة، حيث أقر هؤلاء المسؤولون أنفسهم من دون قصد، بأن أكثر ما يمكن أن يهدد "إسرائيل" هو أن يعودوا إلى منازلهم. أمر يشبه إضراب موظفين ضد إدارة شركة ما من خلال التوقف عن العمل.
اقرأ/ي أيضًا: فلسطين والبحث عن لحظة ربيع عربي جديدة
دور "وسخ" آخر وأساسي تقوم به السلطة، باعتراف مسؤوليها، نيابة عن "إسرائيل"، وهو ممارسة نوع من القمع بالوكالة. على سبيل المثال، بشأن العمليات الفردية أو عمليات الطعن التي يحاول القيام بها شباب ساخطون على الوضع، فإن السلطة قامت بشكل منتظم منذ عام 2017 بمحاولة ردع هذه العمليات. وليس مفاجئًا أن بعض الخبراء الإسرائيليين أشاروا في مؤتمرات مرموقة إلى الدور المهم للسلطة في "التعامل" مع نتائج الإحباط، اليأس، البطالة في أوساط الفلسطينيين، والحيلولة دون أن تتحول هذه الأوضاع إلى "توترات عنيفة" تجاه "إسرائيل". بلغة أخرى أقل دبلوماسية، فإن أحد أدوار السلطة هو التعامل مع عواقب سنوات من الاضطهاد والاحتلال والسلب مع الحرص ألا تدفع "إسرائيل" ثمن هذه العواقب.
إذا كان هناك مثالٌ شبيهٌ ومفيدٌ على هذا الدور الذي تلعبه السلطة، فهو ما تقوم به دول الاتحاد الأوروبي على سبيل المثال في السنوات الأخيرة بشأن اللاجئين، والأزمات التي نتجت بشكل ممنهج نتيجة تدخل هذه الدول نفسها في "مناطق الصراع". حيث تقوم بتمويل مجموعات عسكرية أو أنظمة للتعامل مع اللاجئين خارج حدود الاتحاد وبعيدًا عن أراضيه، في ليبيا والسودان ومصر وغيرها. لا يهم أن يُقتل هؤلاء اللاجئون، لكن الأهم أن يتم ذلك بعيدًا عنا وبأقل تكلفة ممكنة ماليًا وأخلاقيًا. الفرق الوحيد، أن هذه الدول تمول "العنف بالوكالة" هذا، بينما لا تدفع "إسرائيل" دولارًا واحدًا للسلطة.
شواهد كثيرة يطول تعدادها على العنف بالوكالة الذي تقوم به السلطة، من اعتقال النشطاء الذين قد يشكلون خطرًا على "إسرائيل"، وقمع حتى الاحتجاجات الشعبية في طريقها إلى نقاط التماس في الضفة الغربية، وصولاً إلى تبادل معلومات استخباراتية مع "إسرائيل" حول الفئات الخطيرة والآمنة، والقائمة تطول.
من المهم فهم هذه الجريمة في سياقها الأعم، والتأكيد أن السلطة لا تمارس هذا العنف بسبب فساد أو سوء إدارة، وإنما ببساطة لأن هذا هو دورها
لا تملك السلطة الفلسطينية أي مصدر واضح للشرعية سوى ممارسة هذا العنف. إنها تمثل كما يقول باحثون إسرائيليون، جزءًا من خصخصة رخيصة وأحيانًا مجانية لقطاع الأمن الإسرائيلي. هذا ليس حكمًا أخلاقيًا ولكنه توصيف بسيط للحالة كما هي. هناك خصخصة لـ"العنف"، أما ضحاياه فلم يتغيروا. وإذا كان ثمة مفارقة توضح ذلك كله، فإن كل ما يتعلق بأجهزة أمن السلطة، من تصميم مبنى المقاطعة إلى شكل السيارات العسكرية وطرق الاقتحام، هو مجرد نسخة رديئة عن آلة القمع الإسرائيلية. هذا سياق ضروري لفهم الاغتيال البشع لنزار بنات، وتشخيص المشكلة أو طرح أي حل ممكن.
يرفض المعظم الأعم من الفلسطينيين هذه الجريمة، لكنهم يفعلون ذلك لأسباب مختلفة. هنا من المهم فهم هذه الجريمة في سياقها الأعم، والتأكيد أن السلطة لا تمارس هذا العنف بسبب فساد أو سوء إدارة، وإنما ببساطة لأن هذا هو دورها، وهذا هو السبب الأساسي لوجودها. وبالتالي فإن الحديث عن لجنة تحقيق في الجريمة، أو حتى إصلاح لأجهزة الأمن، لا يبدو منطقيًا. إذا كان هناك إصلاح ممكن، فهو بالتأكيد أن ينتهي هذا الدور السياسي للسلطة الذي لا يزال يشكل عبئًا على الفلسطينيين وتطلعهم للحرية منذ حوالي ثلاثة عقود.
اقرأ/ي أيضًا:
المقاومة جدوى مستمرة: بيتا نموذجًا