لا يخفى على ناظر في القضية الفلسطينية أنّ إسرائيل لطالما سعت إلى "هتلرة" المقاومة الفلسطينية وربطها بالنّازية، والتأكيد في التأريخ والبروباغاندا أنّ المقاومة الفلسطينية والنازيّة تخرجان من رحم واحد، وأنّ اليهود في فلسطين سيُلقوَن في هولوكوست جديد إن لم يقف العالم مع إسرائيل ضدّ المقاومة الفلسطينية والدول العربيّة.
لطالما سعت إسرائيل إلى "هتلرة" المقاومة الفلسطينية وربطها بالنّازية
ولعلّ أشهر الأمثلة في واقع الأمر هو مثال سفينة أكسدس 1947 التي أبحرت من فرنسا عام 1947 محمّلة بناجين يهود من معسكرات الاعتقال النازيّة في ألمانيا بلغ عددهم أكثر من أربعة آلاف متوجّهة إلى فلسطين، ولكنّ بريطانيا اعترضت السفينة حينها ورفضت إدخال من فيها إلى فلسطين وكان القرار هو إعادة السفينة ومن عليها إلى ألمانيا! وهذا ما كانت تسعى الوكالة اليهوديّة إليه: المتاجرة بالناجين من الهولوكوست بغية لفت أنظار العالم إلى الظلم المستمرّ على اليهود بسبب عدم توطينهم في فلسطين، وكان ما حصل صادمًا بالفعل، وآتت الخطّة أكلها ونالت دعوة اليهود لإقامة وطن في فلسطين مزيدًا من التأييد والتعاطف، خاصّة في الولايات المتّحدة حينها. وكانت الرسالة باختصار هي أنّ إقامة إسرائيل هي الحل العادل والأكثر ضمانة لإنهاء المأساة اليهوديّة ومحنة الهولوكوست، فإن لم تقم هذه الدولة فلن يكون لليهود سوى مخيمات النزوح في ألمانيا.
أمّا ذكرى الهولوكوست نفسها فقد انتهكت، وما تزال تنتهك، أيّما انتهاك من قبل الساسة الإسرائيليين باستغلالهم لها أقذر استغلال (سياسيًّا ومادّيًا) وذلك بشهادة مؤرخين يهود أهمّهم نورمن فنكلستين في كتابه الشهير "صناعة الهولوكوست" الذي يرى أن إسرائيل تستخدم ذكرى الهولوكوست بطريقة منهجيّة لإحياء هويّتها الهشّة وتسويغ سياساتها الإجرامية، ولتمنح نفسها الحصانة من النقد بالتسويق المستمر لنفسها على أنّها الدولة الضحيّة.
أمّا الحاجّ أمين الحسيني فقد نال ما ناله من التشنيع والشيطنة في التأريخ الإسرائيلي الحديث، وإن كان هو قد أعطى الإسرائيليين فرصةً ذهبيّة للعب على هذه القضيّة بقراره الانضمام إلى معسكر هتلر والذهاب إلى برلين بعد طرده من فلسطين عام 1937. فقد دأب المؤرخون الإسرائيليون على وصف المقاومة الفلسطينية بالنازيّة مستغلّين على الدوام قصّة الحسيني هذه دون محاولة لوضعها في سياقها الصحيح حينها، مع تهويل كبيرٍ في الدور الذي أدّاه في الدعاية النازيّة، ومع تضخيم كذلك لدوره حتى في الداخل الفلسطيني. ومع هذا أُدرج الحسيني في الموسوعة الإسرائيلية الأمريكية للهولوكوست، وكانت المادّة التي كتبت عنه هي أطول مادّة كتبت عن أي شخص بالموسوعة بأسرها باستثناء ما كتب عن هتلر، وذلك وفق ما ذكره إيلان بابيه في كتابه "فكرة إسرائيل"، رغمَ أنّه لم يفعل شيئًا في واقع الأمر سوى أنّه نقل الأخبار للعرب وقت الحرب من برلين.
فليس من الجديد ولا المستغرب أن يأتي نتنياهو على ذكر الحسيني في معرض الحديث عن الإرهاب والنازيّة، ولكنّ الغريب والجديد هو أن يكون الفلسطينيون أنفسهم هم المسؤولون الآن وبشكل مباشر عن الهولوكوست، وأنّ النازيّة قد خرجت من رحم المقاومة الفلسطينية، وأنّ السحر قد انقلب على الساحر بقيام دولة إسرائيل فوق ركام بيوت الفلسطينيين. ولكن سرعان ما فضحت صفاقة "بيبي" وصبيانيّته السياسيّة في هذا التصريح حتى صار مثار سخرية في وسائل الإعلام العربية والعالميّة.
إسرائيل تستخدم ذكرى الهولوكوست بطريقة منهجيّة لإحياء هويّتها الهشّة وتسويغ سياساتها الإجرامية
يبقى علينا في المقابل أن نتذكّر جيّدًا أنّ الحركة الصهيونيّة نفسها كانت هي التي تعاطفت قولًا وفعلًا مع الفاشية والنازيّة في بداية الثلاثينيات، بل وكان بعض قادة الحركة ببراغماتية قذرة يسعون لاستغلال توجهّات النظام النازيّ بطرد اليهود من ألمانيا (قبل أن يدركوا خطط الإبادة النازيّة) كي يرفدوا المجتمع اليهودي في فلسطين بمزيد من اللاجئين. ولعل توم سيغيف، الصحفي والمؤرخ اليهوديّ، أهمّ من كشف الكثير من التفاصيل عن علاقة الحركة الصهيونية والنظام النازيّ، وهي علاقة استمرّت كما يذكر حتّى العام 1937، بل وكشف أنّ عددًا من اللقاءات كانت قد جرت بين أفراد من الهاغانا وشخصيات من النظام النازي ومن أهمّهم أدولف أيخمان. كل ذلك حصل ببراغماتية بلغت أشدّ درجات الخبث والقذارة لهدف واحدٍ يتمثّل في تسهيل خروج اليهود من أوروبا إلى فلسطين "ليحقّق يهوذا ما حقّقته إيطاليا [الفاشيّة]" كما قال إيتمار بن-آفي أحد أهمّ قادة الحركة الصهيونية حينها.
هذا هو أحد أجزاء تاريخ الصهيونيّة الذي لا بدّ من تسليط الضوء عليه وفهمه وفضح الاتّكاء المستمرّ عليه في السرديّة الإسرائيليّة المعاصرة. أمّا الغباء الذي صدر عن نتنياهو فليس سوى دليل على أنّ حجارة الانتفاضة وسكاكينها قد أفقدته صوابه، كيف لا وهي التي تنفض كلّ ذلك الهراء الذي ألصق زورًا وبهتانًا بتاريخ هذه الأرض وشعبها الرافض للظلم أينما كان.
اقرأ/ي للكاتب: