28-أكتوبر-2019

HAZEM BADER/Getty

مقال رأي 

الاستعدادات النهائية تجري على قدم وساق لافتتاح مركز للشرطة الإسرائيلية في قرية صورباهر الفلسطينية شرقيّ القدس: عُمّال البستنة يزرعون الورود والأشجار في مقدمة المبنى وحوله. وعمال شركة الحماية يركبون الكاميرات لرصد كل حركة حول المبنى، وعلى طول الطريق الواصل إليه. وثمة ثلاث سوارٍ في مقدمة المبنى لترفرف أعلام "دولة إسرائيل" فوقها.

هذا المبنى أقيم مؤخرًا في الجانب الغربي لقرية صورباهر، التي يسكنها قرابة عشرين ألف نسمة. والمبنى إلى الشرق من الخط الأخضر وقريب منه. لقد بني على أراضٍ صودرت منذ زمن بعيد من أهالي صورباهر. واجهة المبنى تطل على السفارة الأميركية التي بنيت هي الأخرى على أراضي القرية.

        السياسة الإسرائيلية على أرض الواقع تؤتي أكلها كل يوم، وفلسطين هي الخاسر الأكبر       

إنّ افتتاح مركز لشرطة الاحتلال الإسرائيلية داخل حيّ فلسطيني مقدسي يعدّ سابقة. وقد جاء في أعقاب خطة غير معلنة للشرطة الإسرائيلية لإعادة الانتشار شرقي القدس، وذلك في أعقاب انتفاضة الأقصى، إلّا أن هذا المركز ليس عبارة عن مركز شرطة تقليدي، فقد سمّي "مركز الخدمة المندمجة"، حيث سيشمل المبنى، بالإضافة للشرطة، خدمات لوزارة الداخلية الإسرائيلية، والتأمين الوطني، والإسعاف، والإطفائية، وذلك لتسهيل دخوله، وجعله ممكنًا ودون أي حساسية، ولضمان تعاون المواطنين معه.

أفراد الشرطة بدأوا عملهم بالفعل قبل عامين تقريبًا. كانوا ينطلقون من مبنى مؤقت متواجد في "كيبوتس رامات راحيل"، ولم ينتظروا افتتاح المبنى في القرية. وقسم من أفراد الشرطة عرب. إنهم يتواجدون في القرية بشكل دائم. وستصادفهم في أبعد الأزقة التي لا يخطر ببالك أن يتواجدوا فيها، يعملون على "مساعدة الناس"، فهم يتقدمون سيارات الإسعاف والإطفاء عند حدوث طارئ ويشرعون بالمساعدة، ويشاركون بالفعاليات والأنشطة في المدارس، وينظمون تدريبات للطلبة على كيفية التصرف في الشارع وعند حدوث الكوارث، ويتوقفون أحيانًا لاحتساء القهوة مع بعض الوجهاء والنشطاء داخل بيوتهم، ويشاركون بشكل فاعل في أعمال الإصلاح بين العائلات بعد وقوع الخلافات بينها.

إنهم "لطيفون"! لا يتدخلون بنشاطات أمنية، ولا يحررون مخالفات السير للسكان. جلّ عملهم "مساعدة الناس"، حتى أضحى تواجدهم جزءًا من المنظر العام للقرية.

ومع بداية عمل الشرطة الإسرائيلية في القرية، تحدّث الناس عن أهداف سياسية من وراء هذه الخطوة، وتأثيرها على العملية السياسية وما ترمي إليه إسرائيل من هذه الأعمال، إلا أن هذا النقاش غير قائم حاليًّا. لقد أصبح نقاشًا قديمًا في بحر الإجراءات المستمرة. الناس منشغلون بتدبير أمورهم حياتهم اليومية. وافتتاح بعض مراكز الخدمة، إلى جانب الشرطة، فكرة ذكية جدًّا، إذ سيضطر الناس للدخول إلى المبنى لتسيير أمور حياتهم.

في الصورة المقابلة، لم تكن هناك أفعال مقاومة حقيقية للفكرة. فقط أحد الصبية ألقى زجاجة ألوان على واجهة المبنى. ولن تستطيع رؤيتها إلا إذا أمعنت النظر بها. وأعتقد أن "إسرائيل" متفاجئة أكثر منّا من ردة فعلنا، ففي أجمل أحلامها، لم تكن لتتوقع دخولاً سلسًا كهذا. لا أستطيع أن ألوم المواطن العادي أمام صمت كامل من التنظيمات والعائلات، أو بالأحرى، لا أستطيع لومه وحده، بمعزل عن السياق كله.

      لكثرة الانغماس بالحياة اليومية، فإنك لا تشعر أحيانًا بالتغيير      

السياسة الإسرائيلية منهجية، وهادئة، وقوية. ومن قوتها، فإنك تكاد لا ترى أي تأثير لنشاط فلسطيني رغم وجوده.

مؤخرًا، تم تأهيل بعض الشوارع وإصلاح أخرى في صورباهر، بكلفة عشرات ملايين الشواكل. كما افتتحت مدرسة جديدة تدرّس حسب منهاج "البجروت"، وقد امتلأت بالكامل بمئات الطلاب، رغم أنها بناية مستأجرة. وافتتح مبنى جديد للأمومة والطفولة، ومكتب للرفاه الاجتماعي. ومشاريع دعم البرامج التعليمية قوية وميزانياتها ضخمة. وهناك دعم مالي للمصالح التجارية الصغيرة. وهناك تحسين لواجهة المحلات التجارية في مركز القرية.. وغيرها من المشاريع.

أمّا المشاريع الصغيرة، مثل نشر عشرات صنابير الإطفاء، وتحسين خدمات النظافة ونشر عشرات الحاويات الجديدة وغيرها، فقد أصبحت من الأمور البسيطة.  

      السياسة الإسرائيلية منهجية وهادئة وقوية. ومن قوتها، فإنك تكاد لا ترى أي تأثير لنشاط فلسطيني رغم وجوده     

قبل عدة سنوات، كان الأمر مختلفًا تمامًا، فقد كان إنشاء مشروع صغير بعشرات آلاف الشواكل يعدّ إنجازًا، وكل الصراخ حول التمييز من بلدية الاحتلال في القدس، لم تكن تؤخذ بجدية.

وبالطبع، لا يُفهم من هذا القول إن صورباهر اليوم متساوية بالخدمات مع الشطر الغربي للمدينة، ولكن الأمور تسير بثبات نحو منطقة يعرفها الإسرائيليون جيدًا.

في كل خطاب رسمي فلسطيني أستمع إليه، أو في أي مؤتمر أحضره، لا ينسى المتحدثون ذكر مدينة القدس، وأنه لا سلام من دونها، وأنها العاصمة الأبدية لفلسطين.. هذه الأجواء تعطيك شعورًا لحظيًّا مؤقتًا ووهميًّا بأننا مركز العالم وأصحاب قرار، وأننا جديون بالطرح، لأعود وأتذكر ما يحدث على أمر الواقع، ولا أفهم حقًّا عم يتحدثون.

الناس في رام الله منشغلون في أمورهم الداخلية، من رواتب وفساد ومقارعه للسلطة وانقسام، وموضوع القدس غير حاضر البتة!

فلسطين تفقد المواطن المقدسي، والسلطة الوطنية لم تستطع خلال قرابة 25 عامًا على وجودها، خلق نموذج معقول لحياة كريمة، بعيدًا عن الشعارات الرنانة. المواطن المقدسي مجبر على سلوك طريق لا بديل له.

السياسة الإسرائيلية على أرض الواقع تؤتي أكلها كل يوم، وفلسطين هي الخاسر الأكبر.


اقرأ/ي أيضًا: 

احتفاء إسرائيلي بزيادة عدد المسلمين بشرطة الاحتلال

الخدمة المدنية: سلاح إسرائيل الناعم

رواية فلسطينية خارج سوق الدموع