مقال رأي |
لم أشهد حربًا حقيقيّة قط، كالحروب التي شهدتها غزة.
لكنني جرّبت اجتياح رام الله عام 2002، بعد ليلة نمتُها عند أصدقاء، لم يكد الفجر يبزغ بعدها، إلّا والدبابات تلتهم شوارع المدينة وأزقتها، وإلا ونحن بضعة شبان في شقة وسط مدينة رام الله.
ما حدث في غزة خلال الأيام الماضية لا أستطيع تخيّله.
المرعب ليس أن تموت. المرعب انتظار الموت دون القدرة على مراوغته.
الموت المباغت ليس مخيفًا للميت. لحظة وينتهي الأمر. أما انتظار الموت، فموت يتجدد مع كل صوت قصف، أو لمعة قذيفة، أو اهتزاز قريب.
إن كنتَ مقاتلًا، فأنت والموت صديقان، تنتهي علاقتكما بتوحدكما، فيصير لكما اسم واحد. هذا خيار ذهبت إليه بمنتهى الشجاعة والبسالة.
أما إن كنتَ مواطنًا عاديًّا، وجد نفسه في مكان يكمُن فيه الموت للجميع في البحر، والجو، والبر؛ فإنك ستموت ألف مرة قبل الموت الحقيقي، أو النجاة المؤقتة، بانتظار نزال آخر مع الموت، لم تسعَ إليه، بل اختارك وحدك، بحكم المكان، وهو نزال لا تكافؤ فيه، ولا تصالح معه.
أن تكون في غزة، يعني أن ترافق الموت وتصادقه، وتنتظره ليأخذك بعيدًا، إلى حيث اللاعودة.
أيام اجتياح رام الله، وعندما كانت دبابات الاحتلال على مقربة منا، وقد سمعنا باستشهاد عدد من رجال الأمن قربنا في مدخل بناية؛ فإننا بدأنا نستعد لاستقبال الموت.
أطل وليد العمري عبر "الجزيرة" يومها ونقل هذا الخبر، وصرنا نتخيل أننا سنكون خبرًا أيضًا. سنصير رقمًا تحصيه وكالات الأنباء والفصائل والمفاوضون.
كانت فكرة الموت هنا مرعبة. لن تحظى بجنازة تليق بك، ولن يُذكر اسمك أصلًا. سيصير اسمك "الشهيد الثالث" مثلًا.
لم نحب أن توثّق الكاميرات صورنا جثثًا ونحن بملابس البيت الرثّة. ارتدينا ملابسنا، وكأننا على موعد مع صديق، أو في الطريق إلى العمل.
ازدحم الحمّام فجأة، وصرنا نضطر للتبول خلال فترات قصيرة. كان أدرينالين القلق يصب البول في مثاناتنا صبًّا.
اتصلنا بأهلنا نطمئنهم أننا بخير. حاولنا ادّعاء الشجاعة، وأن نترك لديهم ذكرى آخر اتصال. سيقولون بعد موتنا: لقد كنا نتحدث معهم قبل موتهم بدقائق!
اقتحم الجيش بنايتنا، وأطلق الرصاص بجنون، فنزلنا ونحن نصرخ: "مدنيون مدنيون"، وبعد توقيف لساعات، قادونا إلى بناية وزارة الثقافة سابقًا.
كنت في رأس الصفّ. أمسكني الجندي من ياقة قميصي وشتمني بكلام بذيء، هو الوحيد الذي أعرفه من العبرية.
ومرّ الأمر بسلام. لم نمت. لكننا اقتربنا قليلًا من التجربة.
في غزة، الصورة مختلفة.
أفراد الأسرة جالسون يستمعون للأخبار. لحظات وتنطفئ الدنيا كلها. لا شرف لدى القَتَلة.
خلال الأيام الماضية، مرت على غزة حرب "صغيرة".
ولأن أهل غزة اعتادوا على "زيارات" الموت المفاجئ، فإنهم يتخذون احتياطات تبدو بسيطة، لكنها تستحق التأمل.
كثر الحديث في الأيام الماضية عن لباس الصلاة الذي يلازم النساء. ثمة احتمالان: الموت، أو النجاة هربًا. وفي الحالتين، الخشية من الانكشاف أحياءً وأمواتًا كان هاجسًا يرافق فكرة الموت. إن كنا سنموت أو نهرب، فلا أقل من أن يرانا الناس كما اعتادوا أن يشاهدونا. ولا نريد أن نكون مكشوفات أمام العدسات وعلى الفضائيات.
الحرص على الأوراق الثبوتية كان مشهدًا اعتاد عليه أهل غزة. لا أقل من تكون لنا أسماؤنا إن متنا تحت القصف. لن نكون أرقامًا، أو "شهداء مجهولي الهوية". على أسمائنا أن تؤرّق القتلة.
أسماؤنا هي درعنا الوحيدة أمام القصف.
أسئلة الأطفال حكاية أخرى: لماذا نحن؟ ما الذي يدعو أبناء الخطايا واللعنات إلى قنصنا وقصفنا وقتلنا؟ أما ألعابنا، فسنحملها معنا. ستموت معنا.
في غزة، الموت لعبة السياسة القذرة. يقرر ربّ إسرائيل الحاكم أن يجري مناورة انتخابية، وها هو دم غزة متاح. اغتيال فتصعيد فمكاسب.
في غزة، تتحول الحرب إلى مساحة للتحليل وإبداء الرأي وإطلاق الأحكام على الموتى.
في غزة، يفتي القاعدون للمقاتلين، دون أن تهتز أصابعهم.
انتظار الموت يولّد غصة صعبة في الروح.
ينظر مليونا ناجٍ إلى أنفسهم في المرآة، ويقولون: نجونا هذه المرة، ونحن بانتظار الموت مرة أخرى.
اقرأ/ي أيضًا: