ينتفض الفلسطينيون منذ القرن التاسع عشر، وتُنتِج انتفاضاتُهم نتائج شتّى، تختلف باختلاف حجم الانتفاضة ومداها وطبيعة الفاعلين السياسيين في تلك المرحلة، وتأثيرات الدول المجاورة والتدخّل الدولي وغيرها، غير أنّه يكاد يكون ثمّة إجماع على قضيّتين بعد كلّ انتفاضة فلسطينية: أن التغيّر في الواقع السياسيّ لا يتناسب مع حجم التضحيات، وأن الانتفاضة أثبتت أن الشعب الفلسطيني حيّ وواعٍ بقضيّته، ولم تنل منه محاولات التجهيل والتغييب والتطبيع.
أثبتت الانتفاضة أن الشعب الفلسطيني حيّ وواعٍ بقضيّته، ولم تنل منه محاولات التجهيل والتغييب والتطبيع
ويبدو أن العلاقة بين هذين الاستنتاجين الدائمَين مُلتبِسة، فإذا كان الفلسطيني يُثبِت وعيه وحضوره وأثر مقاومتِه في كلّ مرة، فلماذا تفشل انتفاضاتُه باستمرار في إنتاج تغيير في الواقع السياسي يتناسب مع حجم تضحياتِه؟ للإجابة عن ذلك، ينبغي لنا فحص مقولة "الوعي الفلسطيني" والبحث عن حدودها وإمكاناتها، وعن مزاياها وعيوبِها، وعن الجوانب التي يجدر بالفلسطيني العملُ عليها، لكي يكون وعيُه أقدر على إنتاج تحوّلات سياسية حقيقيّة على الأرض تتناسب مع حجم تضحياتِه.
اقرأ/ي أيضًا: انتفاضة السّلاح الأبيض
بالإمكان التفريق بين نوعين من "الوعي الفلسطيني"، أحدهما هو الوعي الفطريّ، والآخر هو الوعي التاريخي. نعني بالوعي الفطري، الإدراك البسيط الذي يمتلكُه الفلسطيني على اختلاف توجّهاتِه السياسيّة وأوضاعه المعيشة وموقعه الجغرافي- الاجتماعي (غزة، الضفة، لداخل، أو المدينة،القرية، المخيم) أنّ إسرائيل هي السبب الأساسيّ في كل مشكلة فلسطينية، وأن أي تحليل لمشكلة سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو إنسانية يعاني منها الفلسطيني، لا يشتمل على دور واضح ومباشر للاحتلال في تلك المشكلة؛ فهو تحليلٌ قاصر.
ولأنّ الفلسطيني في العموم يمتلك هذا الوعي، فهو يُدرك أن جزءًا أساسيًّا من حل معضلة الانقسام هو إضعاف الاحتلال، وأن جزءًا أساسيًّا من كفّ يد السلطة عن الشعب والحدّ من تغولِها عليه هو إضعاف الاحتلال، وأن سببًا رئيسًا لعدم قيام حكم تمثيلي فلسطيني حقيقي هو أثر الاحتلال، وأن تغيّر منظومة القيم والتراجع الاقتصادي وضعف المنظومة التعليمية والتربوية وتردّي المنظومة الصحّية كلها مرتبطة بشكل أساسيّ بوجود الاحتلال.
يترجم الفلسطيني هذا الوعي الفطري بطرق مختلفة، منها انتفاضه في وجه إسرائيل باستمرار، باعتبارها سببًا رئيسًا ومباشرًا في مشكلاتِه كلّها، لكن الفلسطينيّ يكتشف أن وجود الاحتلال واستمراره مرتبطٌ بعواملَ أقوى من هبّاته وانتفاضاتِه، فيكتشف بعد تضحياتٍ ضخمة أن واقعه السياسيّ لم يتغيّر، بل ربما ساء، فيعود للتذكير بالنتيجة الأخرى، وهي أن الانتفاضة أثبتت أنّ الفلسطيني واعٍ بقضيّته وحقوقه مهما تقادم الزمن، وتكاد هذه النتيجة تبدو نوعًا من العزاء.
يدرك الفلسطيني ارتباط الاحتلال وطغاة العرب، وأنّ أي جهد لإضعاف أحدهما يُضعف الآخر بالضرورة
ولعلّ الخطوة الأولى في تطوير وعي الفلسطينيّ الفطريّ إلى وعي تاريخيّ، هي التعامل مع وعيه الفطريّ لا باعتباره إنجازًا تحققه الانتفاضات، بل باعتباره حقيقة ثابتة، وواقعًا ننطلقُ منه لتحقيق الإنجازات، لا نتيجة تحتاج إلى مئات الشهداء وآلاف الجرحى والأسرى لإثباتِها في كلّ مرة. وعي الفلسطينيّ بأثر الاحتلال ودوره في كل مشكلاته، ووعيه بحقوقه ومظلوميّته التاريخية، ووعيه بأن مقاومة الاحتلال هي عامل أساسيّ وحاسم في حلّ مشكلاتِه، واستعدادُه النبيل للتضحية بنفسه في سبيل قضيّتِه، كلها أمورٌ أثبتَها الفلسطينيّ مرارًا إلى الدرجة التي تجعل الوعي بها فطريًا بالفعل، لكن الفلسطيني بالغ في رغبتِه في إثباتِها واستمرّ في جعلها هدفًا لحراكه، بينما الأَولى أن تكون حقيقة تنطلق منها انتفاضاتُه، وينبغي للوعي الفلسطيني أن يتجاوز هذه المرحلة إلى وعيٍ تاريخي.
اقرأ/ي أيضًا: نون النّسوة في المقاومة الفلسطينية
نقصدُ بالوعي التاريخي، أن يتمكن الفلسطيني من مساءلة العوامل والأسباب التي تجعل انتفاضاته تنتهي إلى نتائج لا تليق بحجم تضحياتِه، وأن يتمكّن بالتالي من تجاوز عقدة "المبالغة في إثبات وجود الوعي الفطري"، أن يكتفي بهذا الوعي الفطري عن تحقيق نتائج سياسية على الأرض.
من المؤكد أن عودة الفلسطيني دائمًا للتغنّي بسلامة وعيه الفطري بعد فشل انتفاضاته في تحقيق نتائج سياسية ليس سببه الرغبة في ألم ومعاناة بلا نتائج، ولا الاحتفاء بالتضحية لذاتها، فالفلسطيني يريد التحرّر أولًا وآخرًا. بعبارة أخرى، ما يمنع الفلسطيني من تكوين وعي تاريخي يُفضي إلى نتائج سياسيّة هو مانع حقيقيّ ووجيه، ولعلّ الفلسطيني يدركُه كذلك إدراكًا فطريًا، وفي اعتقادنا فالصعوبة الأساسية أمام هذا الانتقال من الاكتفاء بأن تؤكد الانتفاضات على وعي الفلسطيني فطريًا بنفسه وحقوقه ومشكلاته، إلى الرغبة في أن تنتج الانتفاضات نتائج فعلية على الأرض، تكمن في نقطتين: أولًا: حذر الفلسطيني من "الإنجازات السياسيّة"؛ ثانيًا: شعور الفلسطيني أن إنهاء الإحتلال لا يمكن أن ينجزه الفلسطينيون وحدهم.
والنقطتان مرتبطتان، فالفلسطيني يُدرك، وهذه حقيقة، أن الاحتلال تدعمه نظم إقليمية ومصالح دولية، ووجوده مرتبط بمعادلات تحكم المنطقة كلّها، ولذا فالانتفاضات تُضعفه، وتشوّه دعايته في العالم، وتساهم في مقاطعته على جبهات شتى، وتوهن اقتصاده، وتفجر تناقضاته الداخلية، لكنها لا تستطيع وحدها أن تنهي وجوده من الأساس. وهذا الوعي عند الفلسطيني هو ما يجعله قادرًا على تجاوز الثنائية المصطنعة: هل الأولوية لمواجهة الاحتلال أم لثورات التحرر من الطغاة العرب؟ فالفلسطيني يدرك ارتباط الاحتلال وطغاة العرب وأن أي جهد لإضعاف أحدهما يُضعف الآخر، لذا يتعامل أغلب الفلسطينيين مع هذا السؤال كسؤال زائف، يُطلقه غالبًا من يلتقون أيديولوجيًا مع طاغية عربيّ مهدّد.
اقرأ/ي أيضًا: الانتفاضة حدثت.. أغلقوا باب الردة
لكن هذا يعني أن أي إنجاز سياسي يمكن أن يحققه الفلسطينيون دون الإنهاء الكامل للاحتلال سيكون إنجازًا في ظل الاحتلال، ومن هنا تأتي النقطة الأولى، أي تخوّف الفلسطينيين من الإنجازات السياسية، لأنها ستكون دائمًا إنجازات في ظل الاحتلال، وستكون بالتالي خاضعة لابتزازه وعدوانه المستمرّ، وستوقع الفلسطيني في التناقض المؤلم بين الرغبة في المحافظة على إنجازه، وضرورة استكمال مشروعه في التحرر الكامل.
تُضعف الانتفاضات الاحتلال، وتشوّه دعايته في العالم، وتساهم في مقاطعته على جبهات شتى، وتفجر تناقضاته الداخلية
وما يزيد الإشكال صعوبة، هو أن الفلسطيني جرّب نوعين مختلفين جدًا من الإنجاز السياسي في ظل الاحتلال، وكلّ من النموذجين انطوى على صعوبات وتحديات شديدة الخطورة. النموذجان هما اتفاق أوسلو الذي تمخض عنه وضع الضفة الغربية الحالي، والانسحاب أحادي الجانب من غزة الذي أنتج الوضعية الحالية لقطاع غزة.
فالوضعية الحالية في الضفة الغربي نتاج مرحلتين: اتفاق أوسلو الذي جاء بعد الانتفاضة الأولى وعدّه أنصار منظمة التحرير تتويجًا لتضحياتها، وتفاهمات فلسطينية- إسرائيلية- أمريكية أنتجت "مشروع دايتون" بعد الانتفاضة الثانية والانقسام الفلسطيني. أي أن هذا الواقع المتردّي في الضفة الغربية، والذي لم يحقق إنجازات وطنية وفشل في تحقيق وعوده المعيشية والأمنية، تشكلت معالمه الكبرى –للمفارقة!- بعد انتفاضتين كبيرتين.
أما الوضعية الحالية في غزة، فهي نتاج التسلسل التالي: اتفاق أوسلو وخروج قوات الاحتلال من مدن غزة وبقائه في المستوطنات، ثم الانتفاضة الثانية وتزايد قوة حركة حماس والتنظيمات المقاومة عمومًا والعمليات المستمرة ضد المستوطنين، ثم انسحاب الاحتلال أحادي الجانب من غزة، ثم سيطرة حركة حماس على القطاع بعد المواجهات العنيفة مع الأجهزة الأمنية وحركة فتح إثر فوز حماس في الانتخابات عام 2006. أي إن الانتفاضة الثانية ساهمت بشكل حاسم في إضعاف سيطرة السلطة على القطاع ومكنت حماس من توسيع قوتها العسكرية، ما مكّنها أخيرًا من بسط السيطرة على القطاع دون تنسيق مباشر أو تفاهمات محدّدة مع الاحتلال. ورغم أن قطاع غزة ضمن هذه الوضعيّة يمارس مقاومة مستمرّة للاحتلال ويشكّل العقبة الكبرى في وجهه، إلا أن قدرة الاحتلال على شن الحروب وإيقاع المآسي الإنسانية الضخمة بسكان القطاع، وقدرته على خنق القطاع وحصاره، ومسؤولية حركة حماس عن القطاع إداريًا ومعيشيًا، تجعل هذه الوضعية مصدر تهديد واستنزاف دائم للفلسطينيين، وكبّدت حركة حماس ثمنًا ضخمًا من رصيدها وطاقتها وجهودها كحركة مقاومة بالأساس.
بالتالي، يبدو أن من حق الفلسطيني التخوف من كلّ ما يمكن أن يسمّى "إنجازًا سياسيًا" في ظلّ الاحتلال، ويبدو كذلك أن الوضعيتين اللتين آل إليهما حال الضفة الغربية وغزة على اختلافهما الشديد ليستا ما يبحث عنه الفلسطيني المنتفض. ورغم ذلك، لا يزال الفلسطينيّ يُدرك أن هنالك أمرًا ما يمكن فعلُه بين التسليم الكامل والتحرير الكامل، لذا هو ينتفض كلّ حين، بحثًا عن مساحة ما ضمن هذا الممكن المجهول. ولعلّ تحديدًا من أي نوع لهذا الممكن هو البداية الحقيقة لتحوّل الوعي الفلسطيني الفطري إلى وعي تاريخيّ.
اقرأ/ي أيضًا: سيتي إن.. من أبواب الانتفاضة الثالثة