23-مارس-2020

MOHAMMED ABED/ Getty

مقال رأي |  

لفتني ما كتبته الشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان في رسائلها للإعلامي سامي حداد والتي قالت فيها "الخاص أصبح في هذه الأيام، أيام القهر والاستلاب، أقلّ أهمية، فلا أحد يستطيع أن يبقى في هذا الزمن لا مباليًا بما يجري حوله في الداخل أو في الخارج".

ورغم اختلاف السياق إلا أن هذه الكلمات تصلح لزماننا هذا. لقد عرّت حالة الطوارئ العالمية على اختلاف أوقات إعلانها في الدول المختلفة، النظام السائد وكشفت عن هشاشته وعن الامتيازات التي يمنحها للبعض مقابل ما يعاني منه الأقل حظًا أو لربما ليس هناك علاقة للحظ في هذه المعادلة، بل الحالة هنا مرتبطة بالاستغلال والظلم والأنانية. ولعلّ كتابة التأمل هذا ما هو إلا دليل على الامتياز الذي أنعم فيه وعلى توفر كل احتياجاتي الأساسية مع إعلان الطوارئ في بلادنا المسلوبة.

                هذا الوباء الذي انتشر في العالم فرض علينا جميعًا واقعًا مختلفًا أجبرنا فيه على التفكير في المجموع     

في ظل التوتر العالمي، ومع التوتر الداخلي والمحلي أفكر بالفردي والجماعي مع إيماني الدائم بأن الفردي هو الجماعي بالضرورة، لكننا كبشر لا نصُبّ اهتمامنا على الجماعة أو المجموعة في خضم نظام يعزز قيمة الفرد على حساب الجماعة ويعلي منها. في اعتقادي أن هذا الوباء الذي انتشر في العالم فرض علينا جميعًا واقعًا مختلفًا أجبرنا فيه على التفكير في المجموع، واعتبار هذا الهم همًا جماعيًا، ومع ذلك فإن الفرد لا يغيب، والهم الفردي يبقى موجودًا كما الإهمال أيضًا.

يدفعنا فضولنا أو حتى حاجاتنا كأفراد إلى تجاهل التعليمات الصادرة بخصوص الوقاية ومنع انتشار الفيروس، لنرجع مجددًا إلى همّنا الذاتي بعيدًا عمّا قد يسببه هذا من أذية لمن هم/ هن حولنا في الدوائر الخاصة والعامة. 

وعلى عكس ما قالته طوقان فإن الخاص هو العام في حالتنا هذه في ظل قابلية الانتشار الكبيرة لهذا الكائن الذي لا يرى بالعين المجرّدة. في هذه اللحظة بالذات أفكر بمعنى الخاص والعام والفردي والجماعي، وإن كان بالإمكان فصل هذه الثنائيات أو التفكير بها بشكل مجرد تمامًا على أن كلًا منها منفصل تمامًا عن نقيضه. 

في نهاية المطاف يبقى خط الدفاع الأخير لكل شخص مناعته/ مناعتها، لكن هل يمكن القول إن الدفاع الأساسي توفّره الجماعة عبر اتخاذ تدابير الوقاية اللازمة واتباع التعليمات الصحية؟ وهل تكون معركتي هنا فردية وجماعية؛ فإن حافظت على نفسي أولًا ضمنت سلامة الآخرين؟ ربما لا يمكننا الفصل بين الذات والآخر، لا أعلم!

لقد كشفت الأزمة التي نمر بها عن أولويات الحكومات حول العالم، فمنها من جعل إبقاء الاقتصاد ورأس المال الهمّ الأول، ومنها من وضع الإنسان والحياة على أعلى سلم الأولويات. ولعلّ هذه المحنة خلخلت ما لم نتصور يومًا أنه قابل للخلخلة وكشفت عن هشاشة نظام الاستهلاك الذي سيطر على حياتنا. 

     كشفت الأزمة التي نمر بها عن أولويات الحكومات حول العالم    

يأتي هُنا السؤال؛ هل فرضت علينا الحكومات التفكير بغيرنا من خلال العزل المنزلي والصحي؟ أم أن تفاقم الأوضاع فرض عليها كما علينا أمرًا واقعًا دون ترك أي خيار آخر؟ وبالعودة إلى الخلخلة فإن انعدام الخيارات هذا كشف عن عدم قدرة نظام رأس المال والاستهلاك على الاستدامة والحفاظ على البشر في آن واحد.

لقد قُلبت المعادلة؛ فمن كان يتصور يومًا أنّ دول الاستعمار التي نهبت العالم وسرقته وفرضت نظامًا وموازين قوى معينة سيمنع مواطنوها من دخول بلدان مختلفة، وسيُحظر عليهم السفر بحرية وباستخدام "جواز السفر الذهبي". من كان يتصور أن المصانع الكبيرة والشركات الضخمة سوف تغلق أبوابها وتوقف عملها وأن العاملين والعاملات فيها سيتوجهون للعمل من المنازل. 

في هذه الأزمة دعست الكرة الأرضية على "البريك" لتجبرنا على تخفيف سرعة نمط الحياة الذي نعيش فيه؛ سرعة في الإنتاج وسرعة في الاستهلاك ووفرة في الموارد – ما يمكن استهلاكه منها-  واغتراب في العمل الذي لا يترك لنا حيّزًا، في أغلب الأحيان، لفعل ما نرغب أو ما نحب وبما يحفظ كرامتنا. ومن كان يتصور أيضًا أن إفريقيا ستغلق حدودها أمام القادمين من أوروبا، تلك القارة التي نهشتها أنياب الاستعمار الأبيض.

       في هذه الأزمة دعست الكرة الأرضية على "البريك" لتجبرنا على تخفيف سرعة نمط الحياة الذي نعيش    

وفي خضم حالة الطوارئ، فإن الأنظمة الغربية تعرّت وظهر للعيان عدم قدرتها على احتواء المرض وعدم اكتراثها لما يمكن أن يتركه من آثار على حياة البشر كما حدث في المملكة المتحدة والولايات المتحدة وإيطاليا. لقد أثبت "الاتحاد" الأوروبي فشله، لا إسناد ولا تضامن وقت الأزمات. فقط تجمع حول ما يمكن أن يضخّم رؤوس الأموال. وتعود بي الذاكرة هنا عدة سنوات إلى دراستي الجامعية، حين لمعت عينا المحاضر لدى حديثه عن "نجاح" تجربة أوروبا التي بدأت بمجموعة الفحم والصلب وانتهت بالاتحاد الأوروبي، وأتساءل هنا هل كانت التجربة ناجحة بالفعل؟ ومع شلل حركة الطيران والمواصلات والمصانع هل ستأخذ كرتنا الأرضية قسطًا من الراحة بعد مرور وقت طويل من الاستنزاف والتلوث المستمر واللامحدود؟ 

أكمل كتابة هذه الكلمات الآن وقد فُرضت حالة الطوارئ في فلسطين، وأضع سماعات الأذن محاولة تجاهل الأصوات الأخرى من نشرات الأخبار وإشعارات الهاتف وأحاول جاهدة الاستماع إلى أفكاري في خضم هذه الفوضى. 

تتجدد في رأسي فكرة الجماعي الفردي، وكنت قد تابعت مؤخرًا منشورات حراك "طالعات" على صفحات التواصل الاجتماعي بعنوان "حجر عن حجر بفرق"، وهي تعبّر عن جوهر هذا التساؤل. وبالتأمل في الأسابيع الماضية فإن الوضع الراهن لم يوقف قوات الاحتلال من الاستمرار في اقتحام القرى والبلدات ومن حملات الاعتقال والقمع ومن التنكيل بالأسرى والأسيرات وقتل شعبنا بدم بارد واستمرار فرض الحصار على قطاع غزة وهدم البيوت؛ فعلا "حجر عن حجر بفرق". 

نعم إن هذا المرض يمكن أن يصيب الجميع بصرف النظر عن الجنس أو العرق أو الدين أو الطبقة لكننا لسنا سواسية في التعامل معه. إن تأثير هذا الفيروس على من هم وهن في الصفوف الأمامية في مواجهة الاحتلال وعلى العمال والعاملات بنظام "المياومة" وعلى من أنهكت الأمراض أجسامهم/ن ومن يتعرضن/ون للعنف والظلم بشكل يومي يختلف اختلافًا شديدًا عمّن أعطاهم نظام رأس المال القدرة الأكبر على الوصول إلى الموارد الطبية والمساحة الكافية للعزل المنزلي بما يضمن سلامة الآخرين. 

لعل الفترة القادمة ستفرض علينا من بين ما تفرضه التفكير بالبدائل عالميًا ومحليًا، هل سنفكر بتغيير نظام رأس المال؟ هل سنعطي الأرض المزيد من الوقت لتتنفس فيه؟ هل نفكر ببديل عن العمل في المستوطنات وبما يضمن كرامة العمال وقوت يومهم؟ هل سنستغني عن التمويل الخارجي؟ وهل بإمكاننا خلق حالة تضامن عالمية بدلًا من الحروب والاستعمار؟ هل سنفكر بأساليب أخرى للتعلم والتعليم؟ أنسترجع روح الجماعة ونبقيها بعد تجاوز الأزمة؟ هل نفكر بالجماعي ونستعيده نمطًا فلا نرى الجوع والاستعمار والعنف والظلم؟ وهل يمكننا الخروج بدروس مستفادة من حالة الطوارئ هذه؟ 


اقرأ/ي أيضًا:

يوميّات في الحجر الصحي.. عائلة فلسطينية في بكين

ما هو سر قوة الفلسطينيين في مكافحة كورونا؟

إلى أي ساعة دوام الملائكة؟