18-يوليو-2018

انتشرت في الأيام الأخيرة انتقادات مكثّفة عبر وسائل التواصل الاجتماعي حول بثّ قناة العربية وثائقيًا بعنوان (النكبة). ولمّا كنت قد أعددت وأخرجت وثائقيا بنفس العنوان (النكبة) قبل عشر سنوات على أربعة أجزاء، تظهر قصة نكبة فلسطين منذ عام 1799، وتمت ترجمته بحمد الله إلى عشر لغات، وأصبح مرجعًا للتدريس في الجامعات حول نكبة فلسطين. فقد وجدت من واجبي أن أبحث عن حقيقة الوثائقي الحديث، ولماذا أثار هذه التعليقات، بل الاستهجانات!

  الفيلم في الأصل بعنوان "إسرائيل: الأرض الموعودة مرتين"، وعُرض في مهرجان السينما الإسرائيلية بباريس  

واكتشفتُ بعد التدقيق، أنّ هذا الوثائقي الحديث (النكبة)، الذي تم بثّه في جزأين يحملان اسم (الجزء الأول 1897-1948)، و(الجزء الثاني 1948- 1967)، على قناة العربية، هو في الأصل وثائقي بعنوان (إسرائيل: الأرض الموعودة مرتين)، وقد أنتجته شركة روتشي، وعرض لأول مرة في مهرجان السينما الإسرائيلية في باريس في مارس/آذار 2018، ثم على قناة الآرتي الفرنسية في أبريل/نيسان، والآن على قناة العربية في يوليو/تموز.

ومخرج الوثائقي إسرائيلي فرنسي هو "ويليام كارل" وزوجته المخرجة "بلانش فنجر"، وهما معروفان بسلسلتهما الوثائقية في ثمانية أجزاء حول الهولوكست والتي أنتجت عام 2015، والمنتجة دومينيك طيبي مديرة شركة روتشي. وقد استضافت الإذاعات الفرنسية في الذكرى السبعين لـ (تأسيس إسرائيل) المخرجين للحديث عن هذا الوثائقي، وهذا هو الرابط للوثائقي الأصلي باللغتين الإنجليزية والفرنسية: https://bit.ly/2KWgRE9

اقرأ/ي أيضًا: وثائقيات الجزيرة.. حكاية النكبة وحكاية الثورة

من الطبيعي إذن أن يتساءل كل منّا عن السبب الذي دعا قناة عربية إلى شراء وبثّ هذا العمل الذي يحكي قصة (إسرائيل) من وجهة النظر الصهيونية التقليدية الكاملة، وترجمته إلى اللغة العربية! ولكن المدهش بالنسبة لي، هو تحويل عنوان العمل من (إسرائيل: الأرض الموعودة مرتين) إلى (النكبة)! خاصة أن العمل في الأصل لا يدعي أنه يتناول النكبة لأن المخرجين وفريق العمل يتناولون التاريخ من وجهة النظر الصهيونية التي ترى تأسيس إسرائيل (حلمًا) وتعطي كل التبريرات لـ "ظهور مشكلة اللاجئين الفلسطينيين" نتيجة "ظروف الحرب"، فبعد نهاية الحديث عن عام 1948 في هذا الوثائقي، وبداية الجزء الثاني، لم يعرض أي شيء يخص اللاجئين الفلسطينيين في أي دولة عربية، أو لقطة لأي مخيم، اللقطة الوحيدة لمخيم ظهرت لنازحي 1967، ولم يرد أي ذكر لـ 160 ألف فلسطيني بقوا داخل وطنهم وفرض عليهم المواطنة الإسرائيلية هم اليوم مليون ونصف يشكلون أصحاب البلاد من فلسطينيي الداخل.

   "الفلسطيني" في هذا الوثائقي تتم رؤيته من عدسة "الصهيوني"   

 كما أن "الفلسطيني" في هذا الوثائقي تتم رؤيته من عدسة "الصهيوني"، لذا فهو الآخر، والمخرّب، والقاتل، والغبي، والتافه أو المنسي حين يجب أن ينسى. لكن نظرة فاحصة للوثائقي في جزئه الثاني، تثبت أن التشويه لم يكن مقصودًا به ما حدث عام 1948 فحسب، بل ما حدث عام 1967 أيضًا، فحتى "هضبة الجولان وسيناء" وصفتا أنهما فارغتان بلا سكان عام 1967! ولم نر لقطة واحدة للأردن أو سوريا، وكأنّ مصر وحدها هي الجبهة، هذا عدا تشويه الحقبة الناصرية بتكثيف في هذا الوثائقي. 

لا أريد أن أفنّد العمل أرشيفيًا، فالغالبية العظمى من الأرشيف المستخدم لا علاقة له بالفترة الزمنية التي يتم الحديث عنها، وهو (كما كثير من الوثائقيات) يستخدم الأرشيف كأنه "صور لا معنى لها" فوق الزمن.

لكن الرواية الصهيونية فيه مدهشة أيضًا، فهي الرواية الصهيونية التقليدية التي لم تعد تلقى رواجًا حتى في الأطر الصهيونية الحداثية، وكأن المؤرخين الإسرائيليين الجدد لم يفنّدوا هذه الرواية وينسفوها من أساسها منذ أواسط التسعينات، وكأن عشرات الكتب بكل لغات العالم لم تثبت أن الرواية الصهيونية لم تعد قادرة على العيش حتى في أوساط الصهيونية التقليدية.

 فالوثائقي يقول أن فلسطين كانت أوائل القرن العشرين "قاحلة بها مستنقعات" وأن الصهاينة الأوائل كانوا "شبانًا أوروبيين مثاليين" وأن الكيبوتس كان "رمز التعاون" على الأرض، وأن "الفلسطينيين باعوا أراضيهم لليهود الوافدين"، وأن "القومية العربية كانت معادية للسامية منذ 1920" وأن "ثورة 1936 هي أعمال شغب" وأنّه حين ولدت "دولة إسرائيل تحول الحلم إلى حقيقة" وأنّ "كل محاولات إسرائيل لإقامة دولتين فشلت بسبب الفلسطينيين" وغير ذلك الكثير. عدا استخدام كم هائل من المصطلحات الصهيونية مثل "حرب 1948" و"حرب 1967" و"حائط المبكى" و"الإدارة الإسرائيلية" (وليس الاحتلال) و"سكان يهودا والسامرة"...الخ، وصولًا إلى اختراع مصطلحات مضحكة مثل "صحراء النجف"، التي كانت ترجمة حرفية من العبرية والإنجليزية لمترجم ومحرر أبعد ما يكونان عن الثقافة (!)، بدل "صحراء النقب".

هذا عدا سيل من الأخطاء التاريخية، ومنها على سبيل المثال لا الحصر:

  • أن "شبانًا يهودًا" هم من اشتروا أرضًا لإقامة "ريشون لتسيون" عام 1882 من فلسطينيين. والحقيقة أن الصهاينة حاولوا شراء قطعة أرض عام 1882 وحينما لم تتم الصفقة بسبب معارضة الوالي العثماني، تدخل نائب قنصل بريطانيا في يافا فاشترى الأرض وسجّلها باسمه وسميت مستعمرة "ريشون لتسيون" وهي عبارة توراتية تعني "الأول أو الطليعي في صهيون"، كجزء من دعم بريطانيا لمخطط الصهيونية في فلسطين. ووثق ذلك الراحل العلامة د. عبد الوهاب المسيري في موسوعته.
  • وأن "الهاجاناة هي الجماعة المسلحة للدفاع عن اليهود الفلسطينيين" (!) والحقيقة أنّها الجماعة التي أسستها ودربتها وسلحتها بريطانيا منذ 1920 للدفاع عن الصهاينة المستعمرين، وبدأت نواتها بفيلق صهيوني دخل القدس عام 1917 مع الجيش البريطاني المحتل.
  • وأن الزعماء العرب قالوا للفلسطينيين عام 1948: "غادروا! سنفوز ويمكنكم العودة لاحقًا". والحقيقة أن هذا لم يحصل أبدًا، ولا حتى في الإذاعات العربية كما روّجت الرواية الصهيونية التقليدية، ودحض ذلك المؤرخ الإسرائيلي البرفسور آفي شليم، الأستاذ في جامعة أكسفورد، وأثبت عدم صحته.
  • وأن إليانور روزفلت كانت تجلس مع بن غوريون في تل أبيب في نوفمبر 1947 يستمعان سويًا لنتائج تصويت قرار التقسيم، مرفقين في الوثائقي صورة لهما سويًا مع مذياع. والحقيقة أن السياسية الأمريكية (والسيدة الأولى سابقًا) لم تزر تل أبيب إلا عام 1952 لأول مرة، والصورة من عام 1952 وليس 1947!
  • وأنه قد تم طرد 830 ألف يهودي من دول عربية. والحقيقة أن الموساد عمل على تهجير بطيء وتدريجي لليهود العرب طوال الخمسينات والستينات إلى إسرائيل، والآن تستخدم هذه العبارة لتقول 850 ألف لاجئ فلسطيني طردوا خارج فلسطين، و850 ألف لاجئ يهودي عربي لجأوا إلى إسرائيل. هذه بتلك!

أخيرًا، أشعر بالأسف لبعض الضيوف الذين شاركوا في البرنامج، وأعرف أنهم لا يؤيدون الرواية الصهيونية، إلا أنه قد تم استخدامهم وقطع مقاطعهم الصوتية بطريقة مشوهة بشكل واضح، لدعم الرواية الصهيونية التي أرادها صُنّاع العمل.

   خسرنا معارك كثيرة في واقعنا الفلسطيني، لكننا يجب أن لا نخسر معركة الوعي أبدًا   

وكلّ ما أطلبه ممن يقرأ أعلاه، أن يشاهد ويدرس سلسلة النكبة الوثائقية الأصلية (4 أجزاء) التي تروي قصتنا بدقة ومهنية، ليكون مسلّحًا بالمعلومة الدقيقة للرد على كل أشكال التشويه والتلفيق، وأن ينشر السلسلة على أوسع نطاق لأصدقائه في كل العالم، كونها متاحة بعشر لغات هي الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإسبانية والإيطالية والبرتغالية والبوسنية والتركية والروسية ولغة الإشارة، وتستخدم في التدريس في جامعات العالم – السلسلة بكل اللغات عبر هذا الرابط: https://bit.ly/2ghsa8z فقد خسرنا معارك كثيرة في واقعنا الفلسطيني، لكننا يجب أن لا نخسر معركة الوعي أبدًا.


اقرأ/ي أيضًا:

"إسرائيل" أمامكم والكثير من العرب خلفكم!

رفات صهاينة في أرض لا يعرفونها! أين رفات شهدائنا؟

مطرب إسرائيلي يُحيي زفاف نجل قيادي يمني في عمّان