"السلطة هي القدرة على تحويل الكائن الحيّ إلى جثمان، ومن ثم إلى شيء"/ إيريك فروم، الخوف من الحرية.
يتعذّر على قارئ الرواية الحذِر، أن يطلق أحكامًا عمومية في عالم الإبداع اليوم، كأن يحدد مهمات دقيقة للأدب، سواء كانت سياسية أو اجتماعية أو تنويرية، ولكن الكاتب الفلسطيني إبراهيم نصر الله لا يتردد في اعتبار أنّ الأدب يجب أن يكون "أدب تحذير"، وهو ما ظهر واضحًا في روايته الأخيرة المرشّحة للقائمة القصيرة من جائزة البوكر العربية.
"حرب الكلب الثانية"، رواية كابوسيّة تقع أحداثها في المنطقة العربية مستقبلًا، وتروي قصة معارض سياسيّ، انقلب عبر الزمن إلى أشد مؤيدي النظام، بل وصانع أفكاره
"حرب الكلب الثانية"، رواية كابوسيّة تقع أحداثها في المستقبل (ما يقارب مائة عام) في المنطقة العربية، تروي قصة معارض سياسيّ، انقلب عبر الزمن إلى أشد مؤيدي النظام، بل وصانع أفكاره (على غرار صانع الأهداف في كرة القدم)، لم يغيّر راشد الطمعُ في المال أو السلطة، وإنما تماشيًا مع الانمساخ (هل يوجد شيء اسمه الانمساخ؟) الذي أصاب المجتمع والعالم المحيط به بالكامل.
يكمل إبراهيم نصر الله رسم ملامح مشروعه الروائي (الشرفات)، محذرًا هذه المرّة من النتائج التي يمكن أن يفضي لها عالم التوحش اليوم، مستخدمًا الحاضر كإحدى عتبات المستقبل، التي يستشرف منها الحرب القادمة، ومعتمدًا على السنوات الست الأخيرة (قبل إصدار الرواية في 2016( التي شهدها العالم العربي، بل تذهب الرواية أبعد من ذلك، فهي تستشرف مستقبلًا متوحشًا للعالم والإنسان.
الرواية جاءت متّسقة مع غرائبية الواقع الذي ترويه، أو هكذا فرض الواقع المُروى على الرواية أن تكون
ولأنّ العنف أصبح غير منطقيّ، ومنفلتًا وفي بعض الأحيان فنتازيا، فإن الرواية جاءت متّسقة مع غرائبية الواقع الذي ترويه، أو هكذا فرض الواقع المُروى على الرواية أن تكون. فالموضوع يفرض –كما يقول إبراهيم نصر الله نفسه- الشكل الفني الذي يمكن للكاتب أن يعبر من خلاله.
لا يقتل الإنسان الآخر المختلف عنه فقط، وإنما الشبيه به أيضًا، من هنا تطرح الرواية إشكالية الأنا والآخر، فحرب الكلب الثانية، تشبه جريمة الأرض الأولى، عندما قتل قابيل هابيل، ليس لاختلافه عنه بالتأكيد.
في سبيل توضيح هذه العلاقة بين الإنسان وأخيه، سردت الرواية الرحلة الطويلة من التنميط التي خضع لها الإنسان، حتى حاربت عبر العولمة كل ما هو مختلف وأصيل، وحين حققت هدفها، قتلت كل ما هو شبيه، فـ"البشر لا يريدون المختلف ولا يريدون الشبيه، وعلى أحدهم أن يقول لنا بوضوح ما الذي يريده الإنسان".
سردت الرواية الرحلة الطويلة من التنميط التي خضع لها الإنسان، حتى حاربت عبر العولمة كل ما هو مختلف وأصيل، وحين حققت هدفها، قتلت كل ما هو شبيه
تستهزئ الرواية بالحروب، تلك التي حدثت في الماضي لأسباب لا تقل فنتازية عن المتوقعة في المستقبل، كحرب داحس والغبراء، والبسوس، وغيرها، وهو ما يجعل رغبة الإنسان متوقدة دائمًا لإشعال حرب جديدة كما تقول الرواية: "مئة حكاية قديمة لا تنزع منك الرغبة في سماع حكاية جديدة".
ملحوظات نقدية حول الرواية:
تطرح الرواية الكثير من المواضيع، وهذا النقد الأول عليها، حتّى ليبدو للقارئ أنها تريد قول كل شيء، من توحش الأنظمة السياسية، وأجهزتها الأمنية، وحتى الذكاء الصناعي، مرورا بخطورة العولمة، وسؤال التقنية: إلى أين سيصل جنون الاختراعات، والرأسمالية! ليس الاعتراض على تعدد المواضيع، ولكن على السرعة (المخلّة) في طرحها ومعالجتها.
من ناحية أخرى لم تكن تحمل هذه المواضيع أفكارًا أصيلة، ففكرة القلعة والتدخل في أصغر شؤون حياة الإنسان: ماذا أضافت الرواية أكثر من رواية 1984 لجورج أورويل؟ وبالنسبة لفكرة ضابط الأمن (أخو زوجته) ماذا أضاف هذا العمل أكثر من رواية (عَـو) التي نشرها نصر الله قبل ما يقارب 28 عامًا؟
تطرح الرواية الكثير من المواضيع، وهذا النقد الأول عليها، حتّى ليبدو للقارئ أنها تريد قول كل شيء
بل وعالج في روايته المذكورة –بشكل أدق- فكرة المثقف الذي يسقط في شباك السلطة، ويتحول إلى تابع ذليل وخائف، بالإضافة إلى اعتماده نفس تقنيات السرد، خاصة الهلوسات التي يتعرض لها بطل الرواية، فهل يمكن القول أن نصر الله بات يعيد نفسه؟
هذه المقارنات تقودنا إلى سؤال الأصالة مرة أخرى، هل هناك أفكار أصيلة طرحتها الرواية؟ عند قراءة رواية (فهرنهايت 451) للأمريكي راد برادبوري سوف تتردد كثيرًا في الإجابة بالإيجاب على هذا السؤال.
ولعلّ هذا السؤال يقودنا إلى سؤال أبعد وهو الكيفية التي يتعامل بها صاحب "قناديل ملك الجليل" مع الأدب؟ فهل يتعامل مع الأدب كمهنة، ينتج سلعًا في مواعيد محددة، بكميات محددة سلفًا؟ أم كمشروع حياة يرسمه بدقة واحترافية؟
على الضفة الأخرى من الكتابة يظهر أن رواية "حرب الكلب الثانية" إدانة واضحة لتوحش الأنظمة السياسية، وتغوّل أجهزتها الأمنية، ولكن الكاتب أشار في أكثر من تصريح بعد ترشح روايته لجائزة البوكر "الإماراتية" إلى أن الرواية تعالج مسألة الفوضى والجماعات الإرهابية في الوطن العربي، بالرغم من أن تصريحاته قبل هذا الترشح لم تركّز على هذه النقطة.
تصريحات كاتب الرواية عنها، تكاد تختلف حسب الوسيلة الإعلامية التي يجري معها المقابلة
بل إن تصريحات الكاتب تكاد تختلف حسب الوسيلة الإعلامية التي يجري معها المقابلة، فحواراته مع صحيفة الخليج أو قناة MBC تختلف عن حواراته مع فضائية الميادين أو مجلة رمان الثقافية أو صحيفة الغد الأردنية!
الرواية والسينما
يقول إبراهيم نصر الله في كتابه (صور الوجود): "ليس ثمة انقطاع هنا بين مشروع السينما ومشروع الأدب في تأملهما لقضايا الحياة والموت.. الجريمة والعقاب، الحب والكراهية" ويضيف: "جاءت السينما لتفكر وترينا كيف تفكر، وتسأل وترينا مدى السؤال، وتجيب وترينا دم الإجابة وعبثيتها، ولكنها وهي تفعل ذلك ظلت تتكئ في كثير من مشاريعها الكبيرة على الأدب، الذي لم يتوقف تجدد كثير من أهم أعماله.. على كتابتها".
لم يقتصر نصر الله في هذه الرواية على استعراض معرفته الموسوعية في السينما العالمية، بل جعل من مشاهد الرواية مشاهدًا سينمائية، مدعّمًا ذلك بلغة بصرية، مقدودة على قدر المعاني، دون الإفراط في الشاعرية التي تصاحب هذا النوع من السرد المشابه.
اللغة البصرية، ونحت الشخصيات، وتفصيل المحيط المكاني بهذه الدقة، تفرض على القارئ فكرة الكتابة من أجل السينما، فالرواية كتبت بطريقة مثالية لأن تحوّل إلى فيلم.
وهذا الأسلوب الكتابي يعرفه قارئ مشروع (الشرفات) لنصر الله، خاصة في الروايات الثلاثة الأولى منه (شرفة الهذيان، شرفة رجل الثلج، شرفة العار) وإن كان هذه المرة يبدو أكثر توغّلًا في عالم السينما، حتى بات يسيطر عليه.
وكما أنهى نصر الله روايته بكلمة "بدأت" أعود لبداية الرواية، التي تشهد تضخمًا في عدد عتبات النص، تصعد الدرجات، درجة درجة، حتى ينقطع نفسك، ثم لا تجد شيئًا، أتذكر هنا قولًا عربيًا كان ابن تيمية يصف به منطقَ أرسطو: "كلحم جمل غث، على رأس جبل وعر، لا سهل فيرتقى ولا سمين فينتقل".
اقرأ/ي أيضًا:
قناديل ملك الجليل.. أصل الفلسطيني حصان