في ثلاث دقائق ونصف؛ لخَّصت الخارجية الإسرائيلية ما قالت إنها "حكاية الشعب اليهودي في أرض فلسطين"، مستخدمة أسلوبًا ساخرًا جعلنا كفلسطينيين نتساءل عن الجانب "الإبداعي" لدينا في مواجهة مثل هذا الخطاب أمام العالم. والواقع أننا لا نقدم شيئًا إبداعيًا أو غير إبداعي.
يتحدث الفيديو عن زوجين يهوديين يعيشان بسعادة في منزلهما، ويُفاجآن بادّعاء أمم أخرى أحقِّيّتها في المنزل، وهي الآشوريون واليونان والرومان والعرب والصليبيين والمماليك والعثمانيين. فتقتسم كل من هذه الأمم تباعًا جزءًا من المنزل مع العائلة، قبل أن تنهي بريطانيا هذه المأساة المزعومة بمنح اليهود ما يثبت أحقيّتهم في المنزل، من خلال "عصبة الأمم" التي كانت قد تشكلت بموجب معاهدة فرساي بعد الحرب العالمية الأولى. لكن وقبل أن يُتمَّ الزوجان احتفالهما، يُطرق الباب ليظهر زوجان فلسطينيان، ثم ينتهي الفيديو هنا.
ما زالت إسرائيل تحاول إقناع العالم بأنه لا يوجد فلسطين وليس هناك شعب فلسطيني في الدنيا
ودون الخوض مطوّلًا في الجدل التاريخي في هذا الجانب، وحقيقة الادّعاء الإسرائيلي بأن اليهود هم أول من سكن الأرض، فإن الاحتلال داس على حقيقة يبدو من الغباء إنكارها عن عشرات آلاف المهاجرين اليهود الذين قدموا إلى فلسطين منذ أواخر القرن التاسع عشر، وخلال القرن العشرين بحماية ورعاية بريطانية صريحة، في الوقت الذي كانت فيه هذه الأرض مسكونة بعشرات الآلاف، خلافًا لكذبة الصهوينية الشهيرة "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض".
اقرأ/ي أيضا: السيرة القسرية للمدينة الفلسطينية
هذه الكذبة نسفتها بالدرجة الأولى اعترافات جنود قاتلوا في الميليشيات الصهيونية وشاركوا في ارتكاب المذابح، كان منهم - على سبيل المثال لا الحصر - يرحميئل كهنوفيتش أحد جنود "البلماخ" الذي تحدث لصحيفة "يديعوت أحرنوت" هذا العام عن تفجير منازل ومسجد لجأ إليه فلسطينيون في مناطق تابعة لمدينتي اللد والرملة. لقد قال كهنوفيتش: "فجرنا البيوت لأنه إذا لم يكن للعربي بيت فليس له مكان يعود إليه".
ويمكن لمن أراد أن يغوص أكثر في المذابح الصهيونية التي أُريد منها أن تصبح الأرض بلا شعب فعلا، أن يقرأ "التطهير العرقي في فلسطين" لكاتبه اليهودي إيلان بابيه، أو أن يتذكر قرار "عصبة الأمم" ذاتها التي تحدث عنها الفيديو المذكور، عندما قررت لجنة تحقيق منبثقة عنها إثر ثورة البراق عام 1929؛ أن حائط البراق في القدس ليس إلّا جزءًا من التراث الإسلامي، ولا صلة لليهود به.
والحقيقة أنه لا جدوى تُرجى من خوض جدل مطول في التاريخ، ومن الذي كان سبّاقًا في السكن بفلسطين. فالأهم هنا والنتيجة أن ميليشيات مدربة بحماية دول عظمى ارتكبت مذابح مروعة في شعب كان يسكن أرضًا، يزرعها ويأكل من خيرها ويبني فيها مساجد وكتاتيب ودور سينما ويملك منتخبًا لكرة القدم أيضًا.
هنا حُقَّ لنا أن نقول: "كان اليهود قد اشتروا أراضٍ من ملاكين عرب غائبين (أغلبهم من عائلات لبنانية)، ومن خلال ملاكين فلسطينيين بقصد أو بجهل، وكذلك من خلال مزادات علنية أقامتها الدولة العثمانية لأراضي فلاحين لم يلتزموا بدفع الضرائب، فلماذا لم يكمل اليهود هذا المسلك ليصبحوا مع السنين أصحاب الأرض؟ وكانت بريطانيا إلى جوار ذلك كله قد دعمت هجراتهم بشكل كامل".
لا أُروج هنا لفكرة الوطن أو الدولة ثنائية القومية، ولكني أتساءل، بسذاجة إن أردتم، لماذا لجأت الصهيونية إلى القتل والذبح والتفجير والتهجير القسري، بدلا من الأساليب التي كانت ستمنحها بهدوء على المدى البعيد دولة وحُكمًا. وكانت بريطانيا قد سعت فعلاً لفرض هذا الواقع عندما أوجدت مقعدين لليهود في المجلس التشريعي الذي أقامته في الثلاثينيات، وقاطع أغلبية الفلسطينيين انتخاباته.
الجواب هنا – حسب اعتقادي على الأقل – أن الصهيونية أرادت دولة خالية من أصحاب الأرض الأصليين بأسرع وقت ممكن، لقد ظنّت أيضًا بأنه يمكن تصفية هذا الشعب وقضيته وذاكرته ووجوده، تمامًا كما فُعل بالهنود الحمر في أمريكا. وهذا ما يبدو واضحا في الشعار الكبير القديم: "يموت الكبار والصغار ينسون".
اقرأ/ي أيضًا: المفتي في التأريخ الإسرائيليّ
لقد جاء فيديو الخارجية الإسرائيلية امتدادًا لكل ذلك، لكنّه يعكس صراحة أن "إسرائيل" ما زالت تعيش وَهْم إقناع العالم بأنه لا وجود لفلسطين والفلسطينيين، رغم كل حملات المقاطعة للاستيطان والاحتلال الآخذة في التمدد عالميًا. ولعل إنهاء الفيديو ببقاء الفلسطيني والفلسطينية واقفيْن على باب المنزل دون دخوله، رسالة واضحة بأن هذه الأرض لن تكون للفلسطينيين، وأنهم لن يبقوا فيها، كما أنه لم يكن لهم فيها وجود من قبل.
لكن في مقابل ذلك كله، نسأل: "ماذا فعل المستوى الرسمي الفلسطيني وحتى الشعبي في مواجهة المزاعم الإسرائيلية". يقول صحفي معلقًا على الفيديو، إن سفيرًا فلسطينيًا قال له: "لا داعي لأن نفعل شيئًا فالعالم يعرف أننا على حق". لقد ذكرني ذلك بزيارتي قبل سنوات إلى القرية العالمية في دبي، ذلك المكان الذي يجمع دولًا عديدةً تقدِّم كل منها في زاوية لها تعريفًا بحضارتها وثقافتها.
لا يبذل المستوى الرسمي الفلسطيني جهودًا لمقارعة الرواية الإسرائيلية بشأن أحقية الاحتلال بأرض فلسطين
في تلك الزيارة، بحثت طويلًا ومن معي عن زاوية فلسطين، أشار لي صديقنا المصري بعد حين قائلًا: "فلسطين أهيه هناك"، كانت مختبئة مثل طفل ارتكب ذنبًا وتوارى تحت سريره أو داخل خزانة ملابسه خوفًا من عقوبة والده! لم يكن فوق الزاوية الفلسطينية علم، ولم يُأخذ لها مساحة تستحق الذكر، ولا صوتًا يُسمع من جهتها. فيما كانت الزاوية الأردنية - مثلًا - قد جذبت عربًا وأجانب لمشاهدة دبكة أردنية بانبهار.
تجولت في الزاوية؛ لم أجد شخصًا واحدًا يقف متحدثًا عن فلسطين معرِّفًا الزوار بها، لم يكن سوى ركن يبيع مكسرات لم تأت من فلسطين، وآخر للمأكولات الشعبية، وثالث لبيع تحف بلا قيمة، وباعة أغلبهم أفارقة وفلبينيين. سألت لاحقًا عن دور السفارة الفلسطينية في الأمر، فأجابني صاحب أحد المحلات أن خلافًا ماليًا معها حول المصاريف المطلوبة من التجار المشاركين في القرية أفضى لعدم التعاون بين الجانبين، وغاب دورها تمامًا.
وهكذا تواصل "إسرائيل" منذ عقود محاولاتها لإقناع الدنيا بأنه لا فلسطين ولا فلسطينيين، رغم أن وقائع كثيرة تشير إلى أن هذه المحاولات ستبوء لا شكّ بالفشل، بينما نقف في دور المتفرجين، واثقين بأننا سننتصر لا محالة، ونقول في كل مساء: "تصبحون على وطن"، منتظرين بلفورًا عربيًا يأتينا بوطننا على طبق من ذهب، كما أتى بلفور "الفرنجة" اليهود بوطن غيرهم على الطبق ذاته!
اقرأ/ي أيضا: