ما زال ابن مخيم الدهيشة ينحت من صخور بيت لحم وأريحا رواياته المنتميّة للمهمشين، كتب أسامة العيسة ما يقارب عشرين عملًا روائيًا وقصصيًا، وحصل على جائزة الشيخ زايد للكتاب عن روايته "مجانين بيت لحم".
على هامش معرض معرض فلسطين الدولي للكتاب بنسخته الحادية عشرة أجرينا معه في "الترا فلسطين" هذا الحوار الذي تركّز على مشروعه الروائي، والمشهد الثقافي الفلسطيني:
- هل ترى أن أسلوبك السردي الجديد في الشكل والمضمون، بدأت تتضح معالمه، بمعنى هل أصبح بالإمكان تحديده والحديث عنه نقديًا؟
الحديث عن ما تفضلت به متروك للنقاد، هذا أولًا، ولكن أنا أحاول دائمًا أن أقدّم مضمونًا جديدا وشكلًا جديدًا. الشكل بحيث يكون مناسبًا للمضمون، ليس هناك بالنسبة لي مفاضلة بينهما، ومشروعي الروائي قائم على تقديم كل رواية بشكل جديد ومضمون جديد. كل رواية بالنسبة لي هي مغامرة، ومحاولة لتقديم سردية جديدة بشكل جديد، ليس بالضرورة أن يكون هذا السرد في حالة انقطاع مع السرد العربي أو العالمي، قد يكون امتدادًا له، أو مشتبكًا معه. وقد يكون في حالة نقدية معه، بمعنى أنه ينظر نظرة انتقائية للسرد، ويستخدم منه بعض التقنيات، ويترك بعضها، بما يناسب النص.
من أبرز أعمال العيسة: "المسكوبية"، "مجانين بيت لحم"، "وردة أريحا"، "جسر على نهر الأردن"، "قط بئر السبع"، "قُبلة بيت لحم الأخيرة"
- ولكن أثناء كتابتك لأيّ عمل جديد، لا تسعى لبناء شكل سردي جديد، يكون ملتصقًا بك أو يحمل ملامح شخصيتك؟
كل بناء سردي تُستكمل معالمه، ويصدر في عمل روائي، يأتي العمل اللاحق ناقدًا له ومفككًا، وهذا مهم لي ككاتب، وللقرّاء أيضًا، الذين أعتبرهم شركاء في مسيرتي الروائية.
- مشروعك الروائي هو "مشروع تاريخي مشتبك مع الجغرافية الفلسطينية" ما صحة هذا الوصف؟
هذا طموح كبير، ربّما أنا أكثر تواضعًا ممّا ذكرت. أحاولُ أن لا أؤرخ وإنما أرصد حركة الناس في التاريخ، بالطبع أستفيد من الجغرافية والتاريخ، من أجل تقديم عمل روائي فيه متعة واستفزاز للقرّاء.
- لا يظهر الاحتلال في أعمالك كثيرًا، هل هذا صحيح في البداية، وما تفسيرك؟
قد يكون هذا غير صحيح، وقد يكون صحيحًا، ليست هذه هي المسألة، أنا أقدّم عملًا روائيًا، إن استطاع القارئ أن يكمل الكتاب، أو يقتنيه، فقد أدى دوره. ولكن أنا تورّطت في بعض أعمالي بالحديث عن الاحتلال بشكل مباشر، وقد يكون هذا غير صحيّ.
العيسة: الكتابة عن الاحتلال بشكل مباشر غير صحيّ، وقد تورّطت في بعض أعمالي بذلك
- كتبت عن أريحا وبيت لحم كثيرًا، هل تعتقد أن هاتين مدينتين مكتملتين؟ هل يمكن أن نقرأ لك عن رام الله؟
أنا ولدت ونشأت في هضبة فلسطين الوسطى (بيت لحم، وأريحا، والخليل، والقدس، ورام الله)، ومن خلال نشأتي استطعت رصد تطور هذه المدن. وسط مدينة القدس كان يبعد عن منزلي في بيت لحم سبع دقائق في السيارة، درستُ في القدس وكنت أخرج قبل ربع ساعة إلى الكلية في القدس، وعملت في القدس، وسجنت في القدس، وكذلك أريحا والبحر الميت، أما التسوّق في نهاية كل أسبوع فكان من الخليل.
هذا الفضاء المدني الذي ولدت ونشأت فيه، خاصة قبل الانتفاضة الأولى. وبالتالي عندما قدّمت بيت لحم، فأنا أقدّم مدينة شهدت تقدُّمها، وتراجعها. تقدّمها وتطوّرها المدنيّ في بداية السبعينات، عندما كانت السينمات والبارات والمنتزهات، عندما كانت تمشي بخطى ثابتة للأمام، ولكن كان الاحتلال يضرب كل عشر سنوات هذا الفضاء المدني.
- هل تعتبر "أسلمة المدينة" كما قلت في أحد اللقاءات، من أسباب مرحلة التراجع؟
بالطبع، في الانتفاضة الأولى تم رشق سينما بيت لحم بالحجارة! وهذا غريب، أن يكون هناك مشروع وطني يرافقه ضرب للمشروع الثقافي، كان هناك أفقًا معيّنًا لا يستطيع أن يستوعب الحياة المدنية التي عاشها الفلسطينيون في بيت لحم وغيرها، فالفيلم الذي كان يُعرض في القدس، ينتقل إلى سينما بيت لحم بعد عشر دقائق، بعد فكّه وتركيبه.
رافق الانتفاضة الأولى صعود الإسلام السياسي، وهذا أثّر على مناخات المدينة، بحيث تراجعت الحياة المدنية، ودون حياة مدنية لا أعتقد أن هناك أفق إنساني لأي عملية تحرّر.
- ماذا عن رام الله؟
رام الله هي أكثر مدينة فلسطينية وقع عليها الظلم والتعسّف خاصة بعد اتفاق أوسلو، حيث تسمى (وهي تسميّة لا تروق لي بتاتًا) "العاصمة المؤقتة للسلطة الفلسطينية"، في الواقع تم بناء فقاعة تعبّر عن الشكل والتوجهات السياسية للسلطة الفلسطينية. ما حدث في رام الله تمامًا كما حدث في عمّان وبيروت والقاهرة، حيث أصبحت هذه المدن عالّة على دولها، من هنا تم بناء نموذج مشابه في رام الله، الفرق بينه وبين باقي النماذج غير المخطط لها في الدول الشقيقة، أنه يقع في ظلّ احتلال.
رام الله فقاعة، وأغرب نماذجها هو النموذج الثقافي
هناك طبقات ظاهرة استفادت من السلطة الفلسطينية، البعض الآخر من رجال الأعمال، استفادوا من علاقتهم مع رجال السلطة، في بناء نموذج غريب!، وأكثر هذه النماذج غرابة، هو النموذج الثقافي لرام الله، حيث نجد هناك تشوّهًا في مجتمع المثقفين.
- ما هي الرواية التي قلت أنك سحبتها من النشر بعد فوزك بجائزة زايد للرواية العربيّة؟
"وردة أريحا" شعرت بوجوب إعادة النظر فيها.
- هل كان هناك تعديلات بعد سحبك لها، ودفعها مرة أخرى للنشر؟
دائما هناك تعديلات، المراجعات لا تنتهي حتى تصل إلى المطبعة.
- قلت مرة في لقاء إذاعي :"كتابتي قائمة على تحدي الممنوعات في عالمنا العربي" ما هي الممنوعات التي طرقتها في كتاباتك؟
أبرز الممنوعات في وطننا العربيّ هي الدين والسياسة والجنس، في الواقع استطعت أن أخدش هذا الثالوث، ولكن في النهاية أنا لست كاتبًا من أمريكا اللاتينية. أحيانًا أقول يا ليته كان هناك علاقات معهم لنبيعهم بعض الأفكار.
نحن نكتب على حواف السياسة والجنس والدين، لم يكن هناك اختراقات كبيرة في هذا المجال، هذا هو الواقع.
- كم تمارس من حريّتك الفكريّة؟
هناك تقييدات، من الصعب على الكاتب المثقف في العالم العربي أن يعبّر عن نفسه بالطريقة المباشرة. الجميل في الأدب أنّه يمنحك حق التأويلات والمواربة، هذا مهم ويحمي الكاتب، وكثيرًا ما استخدمته.
من الممكن أن أقول لك لا أخاف، وأتحدى الرقابة، لكن ها غير صحيح، سأعطيك مثالًا من عملي الصحفي، حدث في بيت لحم خلال العامين الماضيين، أن أبوين قتلا بأيدي أبنائهم، ذهبت لأحقق في الموضوع ولكن لم أستطع أن أنشر شيئًا، للحساسيات الاجتماعية، أين الحريّة؟ هناك فدائيات فلسطينيات استشهدن على الحواجز "الإسرائيلية". من خلال التحقيق؛ تبيّن أن هناك بواعث اجتماعية للعمليات، ولكن لم أستطع أن أكتب جملة عن الموضوع. لنتواضع قليلًا، لا حريّة في هذا المناخ.
عن المشهد الثقافي الفلسطيني
- ما رأيك في أداء المؤسسة الثقافية الفلسطينية (وزارة الثقافة والمؤسسات الرسمية)؟
دائما ما أحاول أن أضع حاجزًا بيني وبين المؤسسة الرسمية الثقافية، لا أرغب أن ترعى هذه المؤسسة نشاطاتي الثقافية الخاصة مثلًا. كإشهار الكتب وتوقيعها، وأكثر من مرّة أبدى الوزير شخصيًا رغبته في رعاية أنشطة من هذا النوع، ورفضت. لأنني أعتقد أنّه يجب على المثقف أن يكون مستقلًا عن المؤسسة الثقافية والفصائل السياسية.
في الواقع المؤسسة الثقافية الفلسطينية بعد أوسلو هي استكمال للمؤسسة الثقافية في منظمة التحرير. لم يكن لدى رئيس المنظمة ياسر عرفات عندما أسس السلطة الفلسطينية أي خطة ثقافية، أو رؤية مستقبلية، وبالتالي كانت ذات طابع ارتجالي. وفي الوقت نفسه كانت تعاني من كثرة البيروقراطية وضعف التمويل، وهذا ما منعها من أن تكون فاعلة بأي شكل من الأشكال.
العيسة: رفضت طلب وزير الثقافة كل مرة أراد فيها رعاية عمل ثقافي يخصّني، والمؤسسة الثقافية الرسمية عاجزة
المؤسسة الثقافية عاجزة، وأبرز ما تجسّد فيه هذا العجز بعض المشاريع التي كان بالإمكان أن تكون كبيرة كمشروع القدس عاصمة الثقافة. أنا لا أميل لإعطاء المؤسسات الثقافية الكثير من الاهتمام، أو التعويل عليها.
- على المستوى الإبداعي الفردي، هل هناك أسماء فلسطينية الآن تستحق الالتفات والقراءة؟
في السنوات الخمس الماضية بدأ الأدب الفلسطيني يستعيد جزءا من الدور الذي لعبه خلال المقاومة الفلسطينية. أوسلو كانت انحسارًا وضربة للثقافة، حتى الذين برزوا في منظمة التحرير وجدوا أن كل ما كتبوه لم يعد له قيمة، والناس لم تعد تصدّق هؤلاء الكتّاب.
بعد ذلك أتت مرحلة كان فيها كثير من العودة للذاتية.
الآن هناك العديد من الأسماء، ولكنها ما زالت غير مقتنعة بأن الإبداع يجب أن يكون مستقلًا، المؤسسة لا يمكن أن تصنع كاتبًا أو فنّانًا. أنا أنظر للفيسبوك فأرى صور الكتاب مع زعماء سياسيين أو وزير الثقافة، في الواقع هذا يدل على عدم فهم لدور الكاتب.
هناك إبراهيم نصر الله، ممن يكتبون بكثافة، وعلاقته جيّدة بالجمهور. هناك عبّاد يحيى، وأكرم مسلم، وصافي صافي.
- تجلس كل يوم فترات طويلة في ساحة المهد، ماذا تعني الساحة بالنسبة لك؟
ساحة المهد هي ساحة المغامرة، ساحة من مرّوا إلى السماء، ولد فيها المسيح، وكانت معبدًا لأدونيس، إنّها ساحة الأساطير والنضال في الوقت ذاته.
- تبدو أن أعمالك وليدة قدميك، وليست نتيجة لقراءاتك، صف لنا علاقتك بالقراءة؟
أعتقد أنني قارئ محترف، أقرأ لساعات يوميًا، ودائمًا ما أجد الوقت للقراءة، وأقرأ ضمن منهجية.
- ماذا عن المشي، إلى الآن لا تملك سيارة؟
بالطبع لا، ولا أنوي أن أشتري واحدة، من الصعب أن تكتب عن بلد دون معرفة أشجاره وشوارعه وعصافيره وأفاعيه. عندما تذهب للكتابة وهي مهنة صعبة، يجب أن تكون مُسلّحًا بأدواتك، كما يجب أن يذهب عامل النظافة مُسلّحًا بأدواته.
اقرأ/ي أيضًا:
الناصري: لا أحد يدعم "منشورات المتوسط".. "الأدب أقوى" مستمر