26-نوفمبر-2018

صدر في العام 2011 نص "عبور النهر"، قدم فيه مؤلفه محمد يوسف (أبو علاء منصور) سردًا خفيف الظل لسيرته الذاتية، وسيرة نشاطه الفدائي في فلسطين المحتلة لغاية خروجه منها بعد انكشاف أمر مجموعته الرئيسية واعتقال أفرادها في نيسان/ إبريل 1974، بعدما كانت وفي ظل أجواء حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973 قد نجحت في تنفيذ عمليتها الرئيسية مساء 8 تشرين الثاني/ نوفمبر 1973، والتي اشتهرت فيما بعد بـ"عملية بنك لئومي".

لاحقًا لهذا النص الذي سجل على غلافه الخارجي "رواية"، مع الإشارة إلى أن الأحداث والأسماء حقيقية، أفرغ "أبو علاء منصور" نصه عبور النهر كاملاً مع إضافات واستدراكات، غطت بعض نشاطه في الأردن ضمن ما عرف آنذاك بلجنة التنظيم 77، أحد لجان القطاع الغربي في حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح)، ونشر النص الجديد عام 2014 بعنوان "على ضفاف النهر".

كتاب "رحلة لم تكتمل، محطات على طريق المقاومة" صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، يحكي كاتبه "أبو العلاء منصور" عن نشاطه في لجنة التنظيم 77، وسير بعض قادتها

لم تتوقف سيرة "أبو العلاء منصور" عند اعتقاله في سجن المحطة الأردني؛ بعد نجاحه في الهروب من السجن المؤبد في سجون الاحتلال وعبوره لنهر الأردن، فبعد وقتٍ قصيرٍ من سجنه الذي قارب العامين تهرب منصور إلى سوريا ليستكمل نشاطه في لجنة التنظيم 77.

اقرأ/ي أيضًا: استعادة من الأرشيف: فعل الجيش البريطاني السافل في حلحول

نشاط "أبو العلاء" في هذه اللجنة إلى أن ابتعد عنها نتيجة خلافات داخلية عام 1986، وشذرات من سير بعض قادتها وكوادرها كانت محور الفصل الأول من نصٍ جديدٍ صدر مؤخرًا لـ"أبو العلاء منصور" بعنوان "رحلة لم تكتمل، محطات على طريق المقاومة"، عن سلسلة ذاكرة فلسطين التي يصدرها مشروع دراسة وتوثيق القضية الفلسطينية في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.

كتب أبو العلاء في ثنايا نصه:

"آن أوان إماطة اللثام عن صنّاع التجربة الحقيقيين. أولئك الأبطال الذين منعنا الحرص الأمني عليهم من تسجيل أسمائهم في السجلات الرسمية. بعضهم سجلناهم بأسماء حركية، ومع ذلك لم يُعترف بها حين أفل نجم الثورة. في هذه المرحلة وجد المناضلون أنفسهم بلا حقوق ودون تاريخ يوثّق بطولاتهم. لم يتطلّع هؤلاء يومًا لمكتسبات شخصية، لكنّ تقدّم العمر ومسؤوليات الأبناء تكسر الظهور. ما زاد ألمهم أنّ حلم التحرير لم يتحقق، وأنّ غيرهم فازوا "بالغنائم".

هذا أحد بواعث نص "أبو العلاء"؛ الذي قد يبرر الشكل الذي أتى فيه النص، فالنص على خلاف نصوصه السابقة، لم يتسم بالاتساق، وإنما أتى على شكل شذرات حكت سير بعض العمليات وبعض الشهداء وبعض المقاتلين الذي نشطوا في لجنة التنظيم 77، ولم يكن أبو العلاء الراوي الوحيد في النص، بخلاف جل سيرته السابقة، فلجأ في هذه الشذرات -التي تطول أحيانًا لتغطي صفحات، وتقصر في أحيانٍ أخرى لتقتصر على فقرة- لاستحضار شهاداتٍ ومقابلاتٍ أجراها مع الكوادر لتوثيق بعض نشاطهم. ورغم ما تضيفه هذه الشذرات من قيمة معلوماتية، خصوصًا للمهتمين ببناء سير بعض المقاتلين والعمليات، إلا أنها كانت سببًا في تشتت النص في كثير من الأحيان، فيستشعر القارئ غربة بعض الفقرات عن موضوع الشذرة، وعدم اتساقها زمانيًا وموضوعيًا مع عموم الموضوع المتحدث عنه تحت العنوان الفرعي.

كتاب "رحلة لم تكتمل، محطات على طريق المقاومة" لم يكن فيه "أبو العلاء منصور" الراوي الوحيد، بل استعان بمقابلاتٍ تسببت في تشتت النص أحيانًا

بعيدًا عن ما سبق، يفتح هذا الفصل من النص الباب أمام ملاحظات للباحث المهتم، سأختصرها هنا في الملاحظات الآتية:

أولاً: يظهر النص في توثيقه لتجربة أحد أبرز اللجان العاملة في القطاع الغربي في (فتح)، أن لا تأريخ منجز لغاية الآن لتجربة (فتح) العسكرية، كبرى فصائل الثورة الفلسطينية آنذاك. وعلى الرغم من وجود بعض النصوص التي توثق لتجربة الحركة العسكرية في معارك كالكرامة، أو في حروب كحرب لبنان 1982، إلا أن هذه النصوص على محدوديتها، تنتفي تقريبًا عند الحديث عن نشاط (فتح) العسكري في الأراضي المحتلة.

رغم أن دراسة هذه التجربة كانت كما يبرز نص "أبو العلاء منصور" ضرورة لحظية لكادر الثورة عمومًا، والعاملين في القطاع الغربي بشكل خاص، لتقييم الأداء ومراكمة التجربة وتخطي تكرار الأخطاء والخطايا التي أودت بالعشرات من الشهداء والجرحى، إلا أن هذه الأهمية تتضاعف الآن لحفظ التاريخ أولاً، وثانيًا للمراكمة والإضافة على هذه التجربة، فالكثير من الأخطاء والخطايا يمكن أن تُلحظ في الفعل العسكري الفلسطيني اليوم، خصوصًا محاولات التأسيس لهذا الفعل في "الضفة الغربية" خلال السنوات الماضية.

اقرأ/ي أيضًا: معركة الواد الأحمر.. شهداء نُسيت أسماؤهم

ثانيًا: يفتح النص أوجاعًا لكل مؤرخ ومهتم بدراسة هذه التجربة، ويؤشر لصعوبة هذه الدراسة، فالنص يتحدث في ثناياه عن كيفية فقدان أرشيف لجنة التنظيم 77، فرغم أن مقر اللجنة كان بعيدًا عن الحروب المباشرة، كالحرب الأهلية في لبنان، أو حرب 1982 التي أتت على كثيرٍ من التراث الوثائقي للفصائل الفلسطينية والمؤسسات الفلسطينية المختلفة، إلا أن هذا البعد لم يحفظ لنا أرشيف اللجنة. فإثر الانشقاق في صفوف (فتح)، والذي كان مقر قيادته سوريا، أتلف "أبو العلاء منصور" ورفاقه وثائق اللجنة حرقًا، أما بقية الوثائق فيقول عنها: "احتفظنا بعددٍ من الوثائق في منزل أحد الإخوة، أشهر قليلة وأحرقتها زوجته بعد اعتقاله، خشيت عليها. كنزٌ ثمينٌ فيه أرواحنا، أسرار عملنا وزبدة خبراتنا. رواياتٌ معمّدةٌ بدم المناضلين وجدّهم في زمن ازدهار الثورة، بينها رسائل الشهيدين خالد الديك وجورج ثيودوري، أوراقٌ تعبق برائحة استشهادهما. وأحرقت جوازيّ سفر أردنييْن للشقيقيْن صقر ومحمد إلياس، وأشياء أخرى فائقة الأهمية".

ثالثًا: يبرز النص قضايا جزئية في هذه التجربة يجب أن يسلط الضوء عليها:

كأثر الاغتيالات في وأد تجارب ثورية كانت ستحدث تغييرات جوهرية في طبيعة الفعل العسكري الفلسطيني ضد المحتل في الأراضي المحتلة. كأثر اغتيال الشهيد كمال عدوان عام 1973 في وأد مشروعه لتطوير القطاع الغربي، وتحول مشروعه للانقلاب على التشكيلة القديمة للقطاع، إلى إضافة انقسامٍ جديدٍ على الانقسامات المتجذرة فيه. وكذلك أثر اغتيال الشهداء أبو حسن قاسم وحمدي في وأد تجربة سرايا الجهاد، وفي تصفية نشاط لجنة التنظيم 77 تقريبًا. وكذلك دراسة البنية التنظيمية للفصائل الفلسطينية عمومًا، وخصوصًا حركة (فتح)، التي انعكست بشكلٍ سلبيٍ على التجربة العسكرية لهذه الفصائل، فتكررت الأخطاء، وكثرت التضحيات، وأهدرت الأموال. وأيضًا دراسة أثر بعد القيادة العسكرية عن الأراضي المحتلة، أو ما يسميه "أبو علاء منصور" القيادة عن بُعد، في فشل الكثير من الخطط والعمليات. يقول: "تلكأنا في إطلاق يد خالد [الديك] فسبقنا إليه العدو،إنّه تضارب الأولويات، ومنطق القيادة عن بُعد".

المفاضلة بين الفعل المركزي أو الخلايا المنفصلة، تظهر أيضًا كقضية أساسية في التفكير العسكري الفلسطيني، وهي قضية متجددة بتجدد التجارب، ويظهر من نص "أبو علاء منصور" وما دونه عن تجربة لجنة التنظيم 77، وجود رغبة جامحة لدى اللجنة في التأسيس لعملٍ مركزيٍ من خلال تكرار تجربة القواعد الآمنة التي سعت (فتح) لتطبيقها أواخر الستينيات، وثبت فشلها الذريع آنذاك، لكن اللجنة عادت لتكرر هذه التجربة بشكلٍ محدودٍ، فسعت لإرسال ثلاث دوريات تشكل قواعد ارتكاز لقيادة الفعل العسكري من داخل الأراضي المحتلة، وعند التطبيق تحولت المجموعة الأولى، التي اشتهرت فيما بعد بتنفيذها لعملية الدبويا مساء 2 أيار/ مايو 1980، من مجموعة ارتكاز واستقطاب وقيادة، إلى عالة على كادر اللجنة في الأراضي المحتلة، وعجزت اللجنة عن تلبية طلبات قائد المجموعة الثانية، الشهيد خالد الديك، وتفهم وضعه، وعملت على تقييد نشاطه بعدما نجح في الدخول لفلسطين وحيدًا. وفشلت المجموعة الثالثة (مجموعة تياسير) في تحقيق هدفها بعدما اكتشفت بشكل مبكر.

كتاب "رحلة لم تكتمل، محطات على طريق المقاومة"، نافذةٌ هامةٌ وأساسيةٌ لكل مهتمٍ بالفعل العسكري الفلسطيني، والتأريخ لتجربة المقاومة الفلسطينية

ما هو البناء التنظيمي الأنسب لفعلٍ عسكريٍ في الأراضي المحتلة عمومًا؟ وهل البناء التنظيمي يجب أن يراعي طبيعة الأراضي المحتلة الجغرافية والديموغرافية وتمايزها (ضفة، قطاع، داخل)؟ وهل التنظيم المركزي ضروريٌ لأي فعلٍ عسكريٍ في الأراضي المحتلة لديمومة العمل وتوزيع الأعباء، وتشتيت قدرات الاحتلال وأجهزته الأمنية؟ يظهر أبو العلاء في نصه نقاشًا أوليًا ونظرة نقدية من واقع تجربتهم، لكن بكل تأكيدٍ فإن هذا النقاش استمر (على سبيل المثال كان هذا النقاش حاضرًا بقوة وسببًا لخلافٍ بين الشهيد عادل عوض الله والشهيد محيي الدين الشريف منتصف تسعينيات القرن الماضي) وما زال مستمرًا، وكل المؤشرات والوقائع على الأرض توحي بفشل، أو عجز، الفصائل الفلسطينية المختلفة عن التأسيس لبنيةٍ تنظيميةٍ متأقلمةٍ مع الظروف الراهنة، قادرةٍ على الاستجابة للتحديات المتغيرة، وبقيت هذه الفصائل أسيرة لأشكال تقليدية في كثير من الأحيان، أو بدائية في أحيان أخرى.

ختامًا، كانت هذه ملاحظات أولية من وحي الفصل الأول من رحلة أبو العلاء منصور، أما بقية الكتاب فستناقش في مقال منفرد، ورغم بعض الهنات التي أشير لبعضها أعلاه، فإن النص سيبقى نافذة هامة وأساسية لكل مهتم بالفعل العسكري الفلسطيني، والتأريخ لتجربة المقاومة الفلسطينية. ولعل في النص ذكرى لبقية الفاعلين التاريخيين أو الراهنين لضرورة التوثيق لتجربتهم وحفظ ذكر رفاقهم، كتب "أبو العلاء منصور":

"كيف يحلّلون نتائج ما توصلنا إليه؟ قال لي سليمان يوسف من كتيبة الجرمق ونحن نتحدّث عن هذه الخطيئة: في دورة عسكرية في الصين، طلب منّا المدرب أن نتحدّث عن تجاربنا، حين فعلنا ذلك سألنا: أهذا مكتوب يا رفاق؟. ذُهل وقد أجبناه بالنفي. علّق الأسير المحرَّر محمد البيروتي: في الأعوام الأولى للحركة الأسيرة، مارس علينا بعض قادة التنظيم في السجون حَجْرًا على القراءة عدا الكتب التقليدية، من يخالفهم يعرّض نفسه للجلد! نجونا بأعجوبة"!


اقرأ/ي أيضًا: 

معركة الدريجات: قاتلوا حتى نفدت ذخيرتهم

فيديو | معركة جنين.. "كانت أيام عز"

معركة جنين 48: العراقيون يفتدون فلسطين