23-نوفمبر-2019

صديقي العزيز،

أكتب لك وحدك، لأنني لا أريد أن يطّلع أحد على ما سأبوح به. البوْح فضّاح.

أرجو أن تكون بخير.

أما إن سألت عني، فإنني لست بخير.

في عينيّ حرقةٌ منذ مدة، وأشعر بفقدان الرغبة في عمل أي شيء، حتى أني فقدت شهية الكتابة.

أستيقظ قتيلاً، وأمشي قتيلاً، وأنام آخر الليل قتيلاً.

أبتسم بلا توقف، وأتحدث بلا انقطاع، لكن لساني يفعل ذلك وحده. أما عقلي، فمشغولٌ فيما لا سيطرة لي عليه.

أقود السيارة، وأشاهد سيدة وهمية على إشارة ضوئية. أرى خيالات، وأتعاطى معها باعتبارها حقائق ثابتة، بل أتمادى وأكتب عنها وأصفها.

أتظارف كثيرًا حول الشاي الأخضر، وأقول إنه رديء، لكنني في قرارة نفسي أدرك أنه مفيد، وجدًّا.

يبدو الشاي الأخضر معادلاً للصحة والعافية، وأخشى أن أظهر كشخص يحرص على صحته؛ فأن تبدو عابثًا عبثيًّا، خير من أن تبدو كمن يتحدثون بلا توقف عن الطاقة الإيجابية، والتنمية البشرية، والحياة الصحية!

أحيانًا، أكاد أنفجر عندما أقرأ حديثهم. ليس أسهل من أخرج الطاقة الكامنة فيّ، لكنها ليست طاقة إيجابية.

الحديث عن الإيجابية وسط كمّ العدمية هذا، ضحك على الذقون. وأنا -كما تعلم- لا أضحك على أحد. أحيانًا أكذب على نفسي، وأنا أعرف أنني أكذب، كي أستطيع الاستمرار، كأن أقول لمن يسألني "كيف حالك": أنا بخير!

أشعر بملل وفراغ هائليْن، رغم امتلاء وقتي من الفجر حتى الليل.

أخرج -يا صديقي- في الصباح الباكر، وأعود إلى بيتي آخر الليل، منهكًا متعبًا.

على أن هذا ليس ما يؤرقني.

المزعج هو شعوري أنني ثورٌ في ساقية، عمل في عمل في عمل، لأوزع تعبي على جيوب تجار كثر ليزداد انتفاخها.

ليس هذا وفقط.

كل هذا يرافقه شعور باللاجدوى، واللاهدف، واللاأفق، واللانهاية.

أشعر بعبثية كل ما يحدث.

ماذا أفعل؟ وإلى أين سأصل؟ سؤالان يدقان جدران خزان عقلي، لكنني لن أجرؤ على التفكير فيهما، سيموتان في لظى السؤال وتوقّع إجابته.

أصل بيتي كل يوم والنوم يكمُن لي، لكنني أراوغه وأتحايل عليه، حتى أغفو وأنا جالس.

أخاف أرق الليل يا صديقي. أخشى أن يهرب النوم فيتملكني أرق الأسئلة.

قبل عدة أيام، وعندما حانت ساعة النوم، لاح نذير قلق مفاجئ. ظننته عابرًا، لكنه أطال المكوث. قمت بعد إحساسي بالهزيمة أمامه وجلست أرقب السماء وأتحدث مع الريح التي تصفر في الخارج.

سمعت أبوابًا تصطكّ وتضطرب، وأشجارًا كادت الريح تقتلعها. أنصتُّ إلى الريح، لعلها تحمل بوح أحد استبدّ به القلق، فحاور الليل والريح.

أحاول الاستسلام للنوم، وأردد قول المعري:

إلى الله أشكو أنني كلَّ ليلةٍ.. إذا نِمتُ لم أعْدَم طوارِقَ أوهامي

فإن كان شرًّا فهو لابد واقعٌ .. وإن كان خيرًا فهو أضغاث أحلامِ

وأفكر أيضًا في قول درويش "إذا جاءك الفرح مرة أخرى، فلا تذكر خيانته السابقة.. ادخل الفرح وانفجر".

الخيانة السابقة لم تكن خيانة الفرح. ثمة كلمة سقطت. الخيانة خيانة الحزن. الحزن الذي يتربّص خارج قاعات الفرح، إنه يتسقّط المترنحين فرحًا، ليعيد لهم اتزانهم، ويقول بحكمة شيخ يعرف كل شيء: "لا تفرحوا كثيرًا. هيا لنسير معًا أصدقاء أبد الدهر".

صديقي العزيز،

ليس الألم شخصيًّا فقط. بل ليته كذلك.

أقرأ كل صباح الأخبار، فلا أجد ما يسرّ البال. انهياراتٌ متتاليةٌ على كل الصعد، مع ادعاءاتٍ فارغةٍ وتافهةٍ بإنجازاتٍ لا يراها أحد.

نسقط في كل مكان، ويطلّ رجالٌ لا يفعلون شيئًا إلا التحدث للإعلام، ليقولوا إننا نصعد كثيرًا ونتقدم ونبني، وإننا نحشر العدو، وعندما ننظر حولنا، لا نرى إلا الخراب وغربانًا تنعق بلا توقف.

لأستطيع الاستمرار، أُكذّب عقلي، وأصدق أننا نحقق إنجازات متتالية تحرج الأعداء وتثير غبطة الأصدقاء.

صديقي،

أكتب لك وقد ضاقت عليّ الدنيا.

أكتب لك بعد أن تعبت من الكتمان.

أكتب لك، ثقةً بأنك للسر أهل.

لا أنتظر نصحك. أنتظر فقط أن تقرأ رسالتي، وأن تكون بخير.

أما إن سألت عن حالي، فأنا بخير.


اقرأ/ي أيضًا: 

دلالات: