09-أغسطس-2016

حيفا 1920

في حديثه عن روايته الأولى "المزحة"، يستعرض الروائي التشيكي ميلان كونديرا أزمة علاقة العمل الروائي بالحدث السياسي بتكثيف يبدو موفقًا، فبرغم أن الأدب يجب أن يكون متصلًا بدون شك بسياقه السياسي أو الاجتماعي، إلا أن كونديرا يؤكد على ضرورة اكتمال العمل حتى بعد الاستغناء عن الحدث السياسي كله. فقد لاقت الرواية المذكورة رواجًا عاليًا، ساهم بخروج كاتبها إلى النور، وقد كان تقاطع موعد نشرها وموضوعها الأساس مع ربيع براغ، والثورة المخملية ضد الحكم السوفيتي، سببًا هامًا في ذلك. ولذلك يرى كونديرا أن روايته الأولى لم تلق إنصافًا سواء من القراء أو النقاد، إلا بعد نسيانهم الحدث، فصار هناك إمكانية لمحاكمتها فنيًا فقط، ومحاكمة اكتمالها بعد الانفصال عن الحدث السياسي. 

يرى كونديرا أن روايته الأولى لم تلق إنصافًا سواء من القراء أو النقاد، إلا بعد نسيانهم الحدث الذي ارتبط بها

تترك هذه المقولة سؤالًا ملحًا عن قدرة الرواية الفلسطينية على الارتباط بالواقع محافظة على انتمائها لسياقاتها إجمالًا، وانفصالها عنها في نفس الوقت، من أجل المحافظة على اكتمالها فنيًا. لكن الحالة الفلسطينية على ما يبدو، حالة مختلفة وخاصة، إذ إن عجزها عن الانفصال عن الواقع السياسي الملح، والداخل في كل تفاصيل الحياة اليومية، أجبرها على العودة الدائمة إلى أحداث سياسية ماضية، خاصة مع الهوس بتمجيد الماضي الذي يتم اعتباره على ما يبدو، الزمن السياسي الوحيد، وتجربة الالتزام الوطني التي كانت تُعرض كأنها فترة ماضية وانتهت، مع نزعات مستمرة لما يطلق عليه عزمي بشارة تحويل عناصر الهوية الاجتماعية والثقافية إلى فولكلور.

اقرأ/ي أيضًا: أنيس صايغ.. أرشيفٌ لفلسطين

ولعل أول الأسئلة التي تخطر في ذهن المطلع على الأعمال الروائية الفلسطينية بعد الانتفاضة الثانية، هو تكرار ارتباطها المباشر بأزمنة ماضية، حتى يكاد الزمن الحاضر يكون مختفيًا في معظم هذه الأعمال، وفي هذه المقالة نحاول توضيح المأزق الذي تدخل فيه الرواية الفلسطينية في هذه الفترة من خلال هذا التكرار، ونسعى إلى توضيح أبعاده وأسبابه. 

تخطر في البال إذن مجموعة من الأسباب التي يمكن من خلالها فهم هذه الظاهرة، سواء أسباب مرتبطة بالتجربة الفلسطينية المحلية، أو أسباب مرتبطة بتجربة الكتابة الروائية بشكل عام، التي تكون فيها الكتابة عن الماضي أقل استحقاقًا، وأكثر سهولة. 

تبدو هذه النزعة الفولكلورية إذن واحدًا من مداخل فهم هذه الظاهرة في الرواية الفلسطينية، التي وجدت نفسها منذ البدء رهينة للبحث عن الماضي المفقود، وعن الزمن الذي خسره الفلسطينيون مع خسارتهم أرضهم ومكانهم، ووجدت نفسها إضافة إلى ذلك مضطرة لتوثيق الماضي والمكان المرتبط بالماضي نفسه، ردًا على السياسات الاستعمارية المستمرة بإلغائه وسرقته. فنجد أمثلة كثيرة على روايات استغرقت في وصف القرى الفلسطينية المهجرة بتفاصيلها الدقيقة من دون تقديم أي مقولة، على غرار ما راح إليه يحيى يخلف ومحمود شقير وآخرون، بتواصل مع ما ذهبت إليه المدرسة الفلسطينية في التاريخ لفترة طويلة أيضًا. 

أخذت الرواية الفلسطينية موقفًا مسبقًا من الحاضر ، واضعة نفسها في مسافات ثابتة مع الحدث السياسي ومع الماضي

أما بعد الانتفاضة الثانية، التي يتم تمثيلها كأنها الحدث العسكري الشامل الأخير، أو آخر مراحل الالتزام الوطني، كان غياب الحاضر أكثر وضوحًا، من خلال العودة إلى نماذج قديمة مثل الانتفاضتين أو تجارب قبلها. إضافة إلى ذلك فقد كان تكرار نماذج قبلية تأكيدًا على تغييب المدينة الفلسطينية لصالح مدن عربية على غرار بيروت وتونس وغيرهما. وكان هذا واضحًا في روايات الجيل الأخير من العائدين، على غرار مايا أبو الحيات وسواها.

اقرأ/ي أيضًا: الطاهر وطار.. الحياة داخل الأسئلة الحارقة

إجمالًا نجد ذلك متقاطعًا مع الاستسهال العام، الذي تكون من خلاله الكتابة عن الماضي قيمة جمالية، وتجربة أقل استحقاقًا للبحث الجدي، فيبدو وكأن طَرْق هذه المراحل التاريخية المختلفة، وإن كان متكررًا بكثرة، لا يحيل إلى استهلاكها، مع إصرار غريب على كون الصفة المحلية للعمل تستدعي عرضا لهذا التاريخ.

بهذه الطريقة أخذت الرواية الفلسطينية موقفًا مسبقًا من الحاضر ومن الأزمنة الجديدة، واضعة نفسها في مسافات ثابتة مع الحدث السياسي ومع الماضي، وإن بدت قادرة على تجاوز الحدث، فلم تستطع على ما يبدو تجاوز زمنه. فكان تغييب الأزمنة الجديدة تغييبًا للأمكنة والأسئلة الجديدة بطبيعة الحال، ولعل روايات أكرم مسلم نموذج مباشر لهذا الادعاء.

يظهر الهوس بالتأريخ واضحًا، وكأن هناك إحساسا دائما بالحاجة لتوثيق أي حدث، وإن كل حدث مهدد. ولما كان تقديم سرديات تاريخية كبرى، فجًا، ولا يتناسب مع بنية الأدب نفسه، فقد لجأ روائيو ما بعد الانتفاضة الثانية، إلى تقديم سير عائلية في معظم الوقت، أو سير شخصية، فلا يكاد القارئ يطلع على عمل واحد، لا يدخل فيه تاريخ الكاتب الشخصي أو تاريخ العائلة، ما جعل هناك التباسًا متواصلًا وحدودًا غير واضحة بين السيرة والرواية، مع كون الزمن الشخصي متلائمًا أكثر مع بناء الرواية. 

وحتى بالنسبة للأعمال التي حاولت تقديم نص معاصر، مرتبط بالزمن الجديد للمدينة الفلسطينية، على غرار ما ذهب إليه عباد يحيى، في "رام الله الشقراء"، فإن هذه الروايات انشغلت بمقولات سياسية محددة، إضافة إلى ما يشبه استفقادًا ملحًا للماضي النموذج، ومقارنة ضمنية دائمة بينه وبين الحاضر التي انهارت فيه كل هذه القيم والمفاهيم.

اقرأ/ي أيضًا:

ضياء جبيلي.. ديانات وقوميات في شخص واحد

غسان كنفاني.. الإقامة في زمن الاشتباك