03-نوفمبر-2018

مؤخرًا، نُشر عن دار الفارابي في بيروت (آذار/ مارس 2018)، نصّ عرّفه الناشر على الغلاف الخلفي بأنّه "سيرة سياسية" لمؤلفه محمد عبد اللطيف (محمد الأمين). تبدأ السيرة في العام 1957 عندما هاجر الطفل محمد إلى الكويت عبر العراق، في قصة متكررة للعشرات من أهالي بقية فلسطين في سنوات الخمسينيات. ويسبق هذه القصة صفحات مقدمة وتمهيد يرهق النص من غير أي إضافة لنصوص السير. وصفحة عن جوّ قريته قبل الرحيل، قريته التي لا يعرف القارئ عنها وعن أسرته أي شيء.

   يشكّل النص نموذجًا لنصوص السيرة السياسية التائهة، فلا خيط ناظم للكتابة، ولا يوجد اهتمام بالتأريخ وربط الحوادث زمنيًا إلا ما ندر، ولا اهتمام بفرز الوقائع بناء على أهميتها    

بانتهاء النص تُدرك أنّ هذه السيرة ليست سيرة محمد الذاتية، وإنّما سيرته في حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح) وفي المجال العام. مضاف إليها العشرات من الصفحات (162-288) التي يمكن اعتبارها نصّ سيرة، أو الأجدر بيان مديح، في الجنرال ميشال عون قائد الجيش اللبناني، فرئيس الحكومة العسكرية، فاللاجئ السياسي خلال سنوات (1988-1990). 

وبهذا فإن ثلث الكتاب يتجاوز في كثير من الأحيان السيرة السياسية للمؤلف ليتحوّل إلى مديح عون بدءًا من الحديث عن زهده السياسي "كان الجنرال عون قائد الجيش يرفض، وبقي مصرًا على عدم ترشيح نفسه [لانتخابات العام 1988] للرئاسة لأنه لم يكن طالبًا للسلطة". [ص162]. مرورًا بسرد القصص والحكايات عن عدالته، "أحد أقاربه [لعون] تقدّم لامتحان الدخول إلى الكلية الحربية، يومئذ رفض الجنرال التوسّط له، فهو يريد ترسيخ العدالة [ص166] وتكافؤ الفرص أمام الشباب، إنّه يرغب في تقليص المحسوبية حتى القضاء عليها نهائيًا، انتشرت هذه الحكاية في بيروت. [ص167]". وعن أناقته "لكنّهم شاهدوا [اللجنة العربية برئاسة الشاذلي بن شديد المشكلة لمتابعة القضية اللبنانية عام 1989] شابًا أنيقًا يرتدي حلة مدنية بربطة عنق جميلة متناسقة يحيط به ثلاثة رجال بلباس مدني أيضًا، يدخل إلى قاعة الطعام بالفندق، مثل سائر النزلاء بدون أية مظاهر أو حماية عسكرية خاصة به. إنه الجنرال عون" [ص193]. وختامًا بحكمة المؤلف التي يدّعيها النص في غير موضع" لكن محمد [المؤلف] عاد وبعد مقابلة الجنرال عون في باريس، عاد بانطباع راسخ، أن الرجل لا بد من أنه سيعود إلى بيروت وإلى الشعب اللبناني مهما طال الزمن" [ص270].

بعيدًا عن بيان المديح لعون الذي يحتل ثلث الكتاب، ويخل في نمط السيرة الذي ارتآه لنفسه في الكتاب بطريقة فجّة. فإن المختلف في هذه السيرة أنها لشخص لم يكن كادرًا أساسيًا في أحد قطاعات الثورة الفلسطينية المختلفة، وإنما لكادر تنوعت تجربته وعمله لتنوع القيادات السياسية التي تبنته. فبداية يعمل المؤلف مع أحد كوادر (فتح) في الكويت. وعندما يقرر التفرّغ للعمل الفدائي يعمل في قطاع الأمن بقرار من صلاح خلف (أبو إياد) ولا يطول به المقام في هذا القطاع، فيعتزل ويعمل في قطاعات أخرى بصحبة عدد من القيادات السياسية لـ (فتح) كصخر حبش (أبو نزار)، أحمد قريع (أبو العلاء)، إسماعيل جبر (الحاج إسماعيل)، حكم بلعاوي، الخ. 

[[{"fid":"75572","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false},"type":"media","field_deltas":{"1":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false}},"link_text":null,"attributes":{"height":960,"width":960,"class":"media-element file-default","data-delta":"1"}}]]

هذا التنوع يؤشّر في جانب منه إلى آلية العمل في صفوف التنظيميات الفلسطينية (منذ انطلاق ما عرف بالثورة الفلسطينية المعاصرة 1965 وصولًا للعام 2005). القائمة في كثير من الأحيان على العلاقة مع أحد المراكز القيادية. ويمنع هذا التنوّع المؤلف من تقديم سيرة معمّقة للثورة الفلسطينية، فالكاتب في تجواله على القطاعات المختلفة -وكما تظهر في معظم الأحيان سيرته- بقي على هوامش هذه القطاعات، رغم إشاراته لقربه الكبير من القيادات التي كان يعمل معها. مع الإشارات إلى أن جميع القطاعات التي عملها بها المؤلف باستثناء قطاع الأمن، بقيت في مجملها بعيدة عن العمل الفدائي والعمل العسكري، الذي هو جوهر التجربة الفلسطينية، والقطاع الأهم. وأبرز مؤشر على ضحالة معرفة المؤلف بهذه التجربة ما يدونه عند الحديث عن القطاع الغربي ونشاطه في الأراضي المحتلة:

"لم تكن لمحمد [المؤلف] علاقة بالقطاع الغربي منذ أوائل عام 1973 إذ انقطعت علاقته بالغربي تمامًا بعد استشهاد كمال عدوان في العاشر من نيسان عام 1973 [وهي علاقة هامشية محدودة كما يشير النص]. وكان يعتقد أن هناك مستودعات للذخيرة والمتفجرات لمقاومة الاحتلال... لم يجد [بعد عودته للضفة الغربية كزائر أول الأمر بعد توقيع اتفاق أوسلو] إلا ارتهان القيادة الفلسطينية باتفاقاتها مع الاحتلال على تقاسم إدارة الشعب تحت الاحتلال. بعد كل تلك السنوات من العذابات والتشرد والحروب وبعد هذا العدد الكبير من الشهداء الذين سقطوا عن الطريق. إن عملية ميناء إيلات الفاشلة قد كلفت حركة فتح زهاء 22 مليون دولار حيث كانت قوات الاحتلال بانتظار الباخرة وعلى متنها الفدائيون هذا إلى جانب عشرات معسكرات التدريب التابعة للقطاع الغربي المنتشرة في كل من بيروت- دمشق= بغداد- اليمن وتلك الميزانيات المترتبة على نقل المتدربين". [ص303].

هذا الاختزال لتجربة العمل الفدائي، وتجربة القطاع الغربي في حركة فتح مؤشر على هامشية المواقع التي احتلها المؤلف في الثورة الفلسطينية. ويؤكده أيضًا ضحالة التحليل المقدم من المؤلف لانقسامات (فتح) السياسية وتياراتها المتباينة، على الرغم من حديثه عن قربه لبعض أقطاب هذه التيارات كناجي علوش، ومحمد داوود عودة (أبو داوود). 

وبالإضافة لهذه الملاحظة يمكن ملاحظة قضايا أساسية أخرى في النص؛ أولها صورة ياسر عرفات في السيرة، فالثلث الأول من النص تظهر سيرة عرفات بوصفها قائدًا عاجزًا مكسور الجناح بفعل أحداث أيلول/ سبتمبر 1970 وما تلاها. ثم يبدأ الحديث عن عرفات القابض على زمام السلطة، لكنه في ذات الوقت مقيّد بمن حوله. فيتحدث المؤلف بإسهاب عن الجماعة التي تحجب الرسل عن عرفات، وتتحكم في تطبيق وتنفيذ أوامره [نموذجًا فؤاد الشوبكي ومحمد صلاح الدين والحاج مطلق ص159، 161]. وعند توقيع أوسلو وتأسيس السلطة الفلسطينية تتركز صورة عرفات الدكتاتور، القادر على بسط سلطته على "الصغيرة والكبيرة"، إلى لحظة الانقلاب. 

مقابل هذه الصورة لعرفات يبرز النص سيرة أبو مازن بوصفه الشخص القادر في حركة (فتح) الذي لا يمكن تجاوز أمره:

"ذات يوم استدعاه صخر حبش قائلًا: يجب أن تعود إلى الحركة، أنت طاقة كبيرة، والحركة بحاجة إلى أمثالك، كان ناجي [علوش] وأبو داوود [محمد داوود عودة] يستعمان إلى هذا الرأي وخاطبهما صخر قائلًا: إذا كنتما تحبان وتحترمان محمدًا عليكما الذهاب معه إلى دمشق ومقابلة أبو مازن [محمود]، أبو مازن الوحيد القادر على إعادته إلى الحركة وإعادة مخصصاته، ما هذه المحبة وأنتما مسخّران الرجل هكذا!

خاطبه أبو داوود قائلًا: ولم لا تتحدث أنت يا صخر مع أبو عمار [ياسر عرفات] لتعيد إليه مخصصاته؟ قال صخر محتدًا: الوحيد صاحب القرار الذي يستطيع ذلك هو (أبو مازن)" [ص85].

ثانيًا: يعيب النص الحديث في الرموز عن الكثير من الأسماء، وأحيانا الحوادث، وتجاوزه للكثير من الحوادث التي ابتدأ بالحديث عنها. فمثلاً يتحدث المؤلف عن تأليف للبلاغ الثالث لقوات العاصفة أثناء وجوده في الكويت، وكان هذا الفعل سببًا كافيًا ليعيده محمود عباس لتفرغه في (فتح) لكنّه لا يشير لطبيعة هذا البلاغ، لم ألفه، وما أهميته التاريخية وأثره في تاريخ (فتح). ويتحدث المؤلف عن خلافات مع بعض الشخصيات البارزة من دون أي إشارة أو تفصيل لطبيعتها (نموذجًا خلافه مع قدري ص114). ويتحدث أيضًا عن مؤشرات لرواية مغايرة لدور إسماعيل جبر (الحاج إسماعيل) في مواجهة اجتياح لبنان عام 1982:

"أردف [عبد الله] السلال محاولًا أن يبلغ محمد خبرًا سيئًا، فقال: يقال أن الحاج إسماعيل قائد القوات المشتركة قد ترك الجنوب ولا أحد يعلم أين هو.. طمأن محمد [المؤلف] عبد الله السلال قائلاً: لا أعتقد ذلك لأن الحاج اسماعيل مقاتل منذ طفولته، دعونا من الاتهامات، وتحرك بسرعة الريح باتجاه بيروت..". [ص116] 

"خلال أربعة أيام كانت الأخبار تتواتر من الجنوب ولا أخبار مؤكدة عن أي شيء. في اليوم الخامس، التقى محمد بصحبة صخر حبش أبا إياد في منطقة كورنيش المزرعة، قال أبو إياد مخاطبًا صخرًا ومحمدًا: ها هو الحاج إسماعيل قد خرج من أرض المعركة والناس هناك بدون قائد. انفعل محمد وقد كان من مدرسة صخر حبش لا يحبذ الخيبة خصوصًا وأن الشخص غائب فقال مخاطبًا أبا إياد. يا أخ أبا إياد أنت قائد ومسؤول ولا يجوز أن تقول هذا بحق الحاج إسماعيل فحين تلقاه تسأله، إذ لا أحد يدري ماذا جرى هناك.. فقد قابلت شقيق الحاج وشاهدت زوجته وأطفاله وها هم عند شقيقه في برج البراجنة.. إن الرجل قد أخرج أسرته لكنه لم يخرج بعد، ما يدرينا أنه قد وقع في الأسر؟ قال أبو إياد مخاطبًا صخر وهو يشير إلى محمد انظر انظر إلى محامي الشيطان، إن معلوماتنا أن الحاج إسماعيل أصبح الآن في البقاع، لقد شوهد في البقاع، صح النوم لا تدافع عنه". [ص117-118]

ثالثًا: في النص مقاطع وتعميمات لا تليق بمجرب، فضلًا عن كادر مفرغ في صفوف الثورة الفلسطينية، ومن ثم في مناصب تنظيمية ورسمية عليا بعد تأسيس السلطة الفلسطينية. من ذلك حديثه عن ظاهرة العمالة، فمن يقرأ النص يظن أنه لا يخلو بيت فلسطيني من عميل، وأن للاحتلال قدرة خارقة على تجنيد العملاء، والوصول للخبايا:

"أما في فلسطين المحتلة فقد سار الاحتلال على خطوات الاستعمار القديم والانتداب البريطاني.. وبدأ بتقسيم الناس عشائر وحمايل.. ثم حارات وزواريب.. ولم يكتف بذلك، بل قام بجمع المعلومات عن الحركة الوطنية الفلسطينية فردًا فردًا، وبدأ بخطة عمل تقوم على استدعاء والد أو شقيق أو قريب لأي مناضل يمكن التوصل إلى معرفة اسمه الكامل... [...] حتى أن بعض التائبين أبلغ محمد [المؤلف] بحرارة أنه لا يوجد فدائي عمل مع التنظيمات الفلسطينية (م. ت. ف) إلا وقام الاحتلال الصهيوني بإسقاط أخ أو قريب أو نسيب له في الوطن المحتل وإن لم يجدوا وقاموا بتجنيد الجار الأقرب له. وحتى أصبح لدى الاحتلال كم هائل من المعلومات ولأسباب لا يعرفها الحدث.. معلومات منذ ولادة الطفل وحتى طباعه وعاداته..." [ص273].

رابعًا: لن يبذل القارئ جهدًا كبيرًا ليدرك أن النص في جوهره موجه للدفاع عن أمانة مؤلفه، ونقاء ذمته المالية أثناء عمله في قطاعات الثورة المختلفة، ثم أثناء عمله في السلطة الفلسطينية. مقابل ذلك يكثر المؤلف من الاتهام لشخصيات في (فتح) ولشخصيات من خارجها. ويشير ضمنًا لوجود حرب معلنة عليه من قبل بعض منظمات المجتمع المدني، وشخصيات كـ (مصطفى البرغوثي)، ناقلاً أنهم إن لم يكونوا لصوصًا فهم جواسيس [ص351]. ولوجود حرب معلنة أيضًا من شخصيات فتحاوية ونافذة في السلطة الفلسطينية عليه وعلى وزير الداخلية حكم بلعاوي لدورهم المناصر لعرفات والمناوئ لتيار الانقلاب عليه (محمود عباس، سلام فياض، محمد دحلان). 
لكن لماذا هذه الإشارات، ولماذا لا يظهر المؤلف ما يخفي، لماذا لم يشر إلى محاكمته في قضية فساد عام 2009، ولماذا لم يدفع التهمة عن نفسه بشكل مباشر. 

خامسًا: في السيرة إشارات لقضايا مهمة، فالنص يؤكد بداية أن ظاهرة "منظمات التحرير الفلسطينية" نهاية الخمسينيات ومطلع الستينيات، لم تكن ظاهرة مقتصرة على مهاجري قطاع غزة. وإنما أيضًا كانت الفكرة تعتمل أيضًا في صدور أبناء بقية فلسطين، ممن لم يهجروا إثر الهزيمة في حرب 1947-1949. [37-43] ويتحدث النص أيضًا عن آلية تعامل (فتح) مع وثائقها أبان اجتياح العام 1982، فيشير المؤلف إلى تكليفه من صخر حبش بإحراق الوثائق المحفوظة في مقر المجلس الثوري لفتح، مع ترك الخيار له لحفظ ما يراه مهمًا. [ص120]

ويبرز النص أيضًا بعض جوانب الصراع الذي دارت رحاه في الأراضي التي أقيمت عليها السلطة الفلسطينية للسيطرة على تنظيم (فتح)، بين ياسر عرفات وما يمكن أن يسمى تيار اللجنة المركزية، وبين قادة الأجهزة الأمنية والتنظيم في الداخل كجبريل الرجوب ومروان البرغوثي من جهة ثانية. ويتحدث المؤلف هنا بتفصيل عن هذا الصراع الذي دارت رحاه بين اللجنة الحركية العليا، وبين لجنة الطوارئ التي شكلها عرفات لتحجيم نفوذ اللجنة الحركية العليا وشخصيات كالبرغوثي. [ص327-339].

ختامًا، يشكّل النص نموذجًا لنصوص السيرة السياسية التائهة، فلا خيط ناظم للكتابة، ولا يوجد اهتمام بالتأريخ وربط الحوادث زمنيًا إلا ما ندر، ولا اهتمام بفرز الوقائع بناء على أهميتها، فيدوّن أحيانًا ما يرهق النص ولا يشكل أي إضافة عليه، ويتجاوز أحيانًا ويحذف ما كان يتوجّب أن يذكر لاستكمال السيرة، ولا يوجد أي اهتمام بتنظيم الملاحق وتعزيز النص وثائقيًا. وهذا مؤشر لغياب محرري دار النشر، ولأهمية حضور محرر، أو مؤرخ في مثل هذه النصوص.


اقرأ/ي أيضًا: 
فلسطين والسينما المصرية.. حضور نادر
محمد الوهيبي.. صورة فلسطين البدوية
7 روايات أساسيّة في الرواية الفلسطينيّة