في المشتل التابع لوزارة الزراعة في مدينة بيت حانون، تصارعُ وحيدةً كي تصنع لنفسها هويةً بين جُموع "الإخوة الأشجار" من أبناء التجارب الزراعية الناجحة في قطاع غزة. شجرة "النيم" الوحيدة هناك ليس لها إلا أختًا "هزيلة" في مقر الوزارة الرئيسي غرب المدينة. والشجرتان كانتا جزءًا من خطةٍ كبيرة لزراعة رئة بيئية لغزة، لولا أن الميزانية الحكومية عجزت عن توفير بطاريات إضاءة وتهوية بقيمة 35 ألف دولار ضرورية لإنجاح إنباتها عبر تقنية زراعة الأنسجة.

شجرة النيم كانت جزءًا من خطة كبيرة لزراعة رئة بيئية لغزة، لولا أن الميزانية الحكومية عجزت عن توفير بطاريات إضاءة وتهوية لإنجاح إنباتها

ولمن لم يسمع بشجرة النيم من قبل، فهي أقرب إلى ما يمكن تشبيهه بمعجزةٍ إلهية. باختصار: كان يمكن لهذه الشجرة لو زرعت بكمياتٍ كبيرة في أراضي المُحرَّرات الممتدة على طول الشريط الساحلي لقطاع غزة بمساحة 15 ألف دونم، أن توفر تكاليف استيراد عشرات الأنواع من المبيدات الحشرية التي تُستهلك سنويًا لمكافحة البعوض، وأطنانًا من المبيدات لمختلف الآفات الزراعية، والكثير من الأدوية والمركبات الكيماوية ذات الأثر الرجعي الضار المخصصة لعلاج الجلد وحمى الملاريا وغيرها، ودون الحاجة إلى معدات متطورة لاستخلاص مركباتها أو فصلها حتى.

"ماتت.."!

تتكاثر أشجار النيم بالبذور بعد نضجها وجمعها مباشرة، في حين تفقد البذور حيويتها بعد فترةٍ تتراوح ما بين 21-30 يومًا من جمعها عن الشجرة، وهذا ما جعل بدء نمو الشجرة الأولى في قطاع غزة عام 2014م "معجزة" في الوقت الذي بقي فيه كيس البذور الذي أوصت بجلبه المهندسة البيئية منال صبح من مصر برفقة أحدهم، ينتظر فتح معبر رفح الحدودي آنذاك شهرًا وأكثر.

"ولأن بذور هذه النبتة لا تُخزّن، كانت الفكرة تقوم على إمكانية استنساخ عشرات الغراس من نبتةٍ واحدة عبر تقنية زراعة الأنسجة، لكن للأسف وضع الكهرباء المتردي في قطاع غزة منذ عام 2007م وحتى يومنا هذا حال دون ذلك"، تقول المهندسة صبح.

عكفت المهندسة منال برفقة زميلتها المهندسة وفاء غبن بعد نمو النبتة على تجهيز 30 لترًا من البيئة المخصصة لزراعة الأنسجة النباتية (وتتكون من مواد عضوية ومواد غير عضوية وسكر، وآجار، ومُنظِّمات نمو) بواقع 30 قارورة، في حين كان المطلوب بقاء القوارير في درجة حرارة لا تزيد عن 20 درجة مئوية، وإضاءة مستمرة لا تنقطع 24 ساعةً في اليوم. نجحت التجربة وكانت فرصة الاستمرار بقوة واردةً تمامًا لولا أزمة التيار الكهربائي وعدم توفر مولدات الإضاءة والتهوية البديلة.

نجحت تجربة زراعة الأنسجة لشجرة النيم في غزة، لكن أزمة التيار الكهربائي وعدم توفر مولدات الإضاءة والتهوية البديلة

"ماتت.. كان مصير القوارير جميعًا سلة المهملات" قالت المهندسة غبن بأسى وهي تتحسس ورق الشجرة المسنن كمشط المنشار، مضيفةً، "لو عرفت بلديات القطاع قيمة هذه الشجرة وزراعتها حول برك الصرف الصحي وبرك تجميع مياه الأمطار في مكافحة البعوض والحشرات الأخرى الضارة، والمبالغ المالية الطائلة التي يمكن أن توفرها في ميزانيات البلديات، لما توانت للحظة عن دعم تجارب إنباتها هنا".

اقرأ/ي أيضًا: انثروا البذور تحصدوا خضارًا في كل مكان

الشيء بالشيء يُذكر، فقد استخدمت بلدية غزة خلال شهر أيار/ مايو الماضي فقط نحو 2200 لترًا من المبيدات الحشرية (سعر اللتر الواحد بين 30 و 40 شيقلًا) لرش محيط برك تجميع مياه الأمطار، ومناطق أخرى تنتشر فيها حشرة البعوض في مدينة غزة وحدها.

وتسمح وزارة الزراعة لأكثر من 180 مبيد حشري بالدخول إلى غزة من الجانب الاسرائيلي عبر موردين فلسطينيين، بينما تحول دون دخول أنواع أخرى "لخطورتها على صحة الإنسان".

"صيدلية الطبيعة"

"النيم" هي شجرةٌ معمرة سريعة النمو كثيفة الظل دائمة الاخضرار، لها رائحة الثوم وطعمًا مريرًا، تتميز بامتداد جذورها إلى مساحاتٍ كبيرةٍ بشكلٍ عرضي وليس في العمق، ولها جذعٌ صلبٌ قاسٍ يمكن أن يتراوح قطره بين 75 - 150 سنتيمترًا، ولها أوراقٌ وأزهارٌ وثمار، ولكل جزءٍ ورد ذكره فائدة! يطلقون عليها في الهند اسم "صيدلية الطبيعة"، لما يمكن أن تسهم في علاجه من أمراض، ويعدّونها "الفلتر" الطبيعي صاحب الكفاءة الأعلى لامتصاص الملوثات الغازية سيما أول أكسيد الكربون وأكاسيد النيتروجين وأكاسيد الرصاص.

هل تعلم صديقي القارئ أن حزامًا من أشجار النيم بعرض 30 مترًا في شوارع المدن التي تعاني أزمات تلوث الهواء قادرٌ على خفض تركيز غاز أول أكسيد الكربون بنسبة 60%؟

حسب المهندسة صبح، فإن الموطن الأصلي للنيم دول جنوب شرق آسيا، ومن مميزاتها أنها يمكن أن تنمو بدرجة جيدة في الأراضي الجافة والفقيرة للعناصر الغذائية، بينما تصل نسبة إنبات بذرتها إلى ما يقارب 100% في حالة جمع البذور وزراعتها خلال العشرة أيام الأولى من جمعها، لتظهر أوراقها فوق سطح التربة بعد قرابة خمسة عشرة يومًا من الزراعة فقط، لتحتاج إلى 3 لـ 4 سنوات كي تزهر.

الموطن الأصلي للنيم دول جنوب شرق آسيا، ومن مميزاتها أنها يمكن أن تنمو بدرجة جيدة في الأراضي الجافة والفقيرة للعناصر الغذائية

 وتضيف، "يمكن استخدام جميع أجزاء شجرة النيم لاستخلاص مبيد حشري، البذور هي أغنى المصادر في إنتاج الزيت والمادة الفعالة كونه شديد المرارة لدرجة أن الحشرة لا تجرؤ على الاقتراب منه، ثم الأوراق والساق وحتى الخشب".

في كلِّها خير

وإضافة إلى المظهر الجمالي الذي تصنعه الشجرة الظليلة وعملها الأساسي كمصدات للرياح، فإن أخشابها تصلح لصناعة الأثاث وحتى المباني لقوتها ومقاومتها القطعية للنمل الأبيض ونخارات الأخشاب، وفق صبح.

شاهد/ي أيضًا: فيديو | أناناس في غزة

وتابعت صبح ذكر منافع الشجرة مبينة أن أوراقها تستخدم كسمادٍ أخضر للتربة لتحسين قوامها والقضاء على النيماتودا، أو كأعلافٍ للماشية كونها منخفضة الألياف وغنية بالبروتين، إضافة لاحتوائها على مواد فعالة لطرد الناموس والذباب، والبكتيريا والفطريات.

وأوراقُ النيم إن جُفِّفت يمكن منها استخلاص المبيدات التي تقضي على آفات الإنتاج الزراعي كدودة القطن، والذباب الأبيض والمن، بالإضافة إلى قوتها الخارقة في قتل القمل والصراصير والبراغيث والعثة.

وأوراقُ النيم إن جُفِّفت يمكن منها استخلاص المبيدات التي تقضي على آفات الإنتاج الزراعي كدودة القطن، والذباب الأبيض والمن

وعلى صعيد جسم الإنسان، تؤكد صبح أن أوراق الشجرة تعالج الثآليل وجدري الماء من خلال وضعها مباشرةً على الجلد في شكل معجون، كما أن وضعها في مياه الاستحمام يزيد من مناعة الجسم، وغلي جذور النيم يساعد في علاج الجروح المتقيحة، في حين أن شربها يحد من انتشار الحمى التي تسببها الملاريا.

المهندسة غبن بدورها، تحدثت عن خصائص شجرة النيم كمضادة للبكتيريا الجلدية، ومكافحتها لحب الشباب والصدفية والجرَب والأكزيما، ومساعدتها في علاج الأمراض المستعصية كالإيدز والسرطان وأمراض القلب والتهاب الكبد، وقالت: "ثمار الشجرة التي تشبه حبات الزيتون تقريبًا مسهّلة، وملطفة للأمعاء وجيدة في علاج الديدان المعوية ومشاكل الجهاز البولي، كما أن نخاع الخشب يساعد في تخفيض هجمات الربو، ودهن زيت النيم يخفف تشنج وآلام الأعصاب، واستخدامه خامًا يستخدم في الإنارة".

وحسب المهندسة صبح، فإن زراعة شجرة النيم حول المنزل تُبعد البعوض والذباب، وتمنعهما من الاقتراب، بسبب تأثيرها السام المانع للانسلاخ وتطور الحشرة، وما تحدثه أوراقها من تشوهات ونتائج على صعيد إنتاجية الجيل الثاني "حيث تنخفض كمية البيض ونسبة الخصوبة بشكل واضح".

المهندستان أكدتا أن كل أجزاء الشجرة يمكن استخدامها في تحضير العديد من المستحضرات الطبية والتجميلية أيضًا، من صابونٍ وشامبو وبلسم وكريمات للعناية بالبشرة ضد العديد من المشكلات المعروفة، تستدرك غبن قبل أن تختم كلامها، "وفي الهند، تؤكل سيقانها الصغيرة كالخضراوات، وتستخدم الأغصان للعناية بالأسنان وتنظيفها".


اقرأ/ي أيضًا: 

بطيخ غزة بطعم القرع.. أين ذهب مذاقه الشهي؟

فيديو | غابة الصبار في غزة

الحاجة زهرية.. أم العنب والتين