بينما يُظلل سقف الحاكورة شجرة الكلونيا التي يُلاطف نسيمها العابرين، كانت ثقوب الباب الخشبي المتهالك قد تسربت منه أحواض النعناع وهي تُزين عتبة البيت، لم أتردد في التقدم خطوة نحوه، وقبل أن أطرق الباب مستأذنة كانت ليلى قد نفضت عن ملابسها الغبار والأتربة العالقة ثم قالت وهي تبتسم: "أهلا وسهلا.. ما تواخذيني، من شوي خلّصت تسميد التراب للزراعة".
مؤخراً، انتشرت في قطاع غزة فكرة "الزراعة المنزلية" على أسطح المنازل أو في أفنيتها، كتوجهٍ لتحقيق الأمن الغذائي، ومواجهة تضخم الأسعار
فبينما استسلم الكثيرون لنمط حياتهم وسيطرة الظروف عليهم، استندت ليلى شعبان (48 عامًا) على مقولة "من لا يملك غذاءه لا يملك حريته"، وأصبحت عنصرًا فاعلًا في مجتمعها، فهي منذ سنوات تعتمد على ما تزرعه من محاصيل زراعية لتوفّر قوت يومها.
اقرأ/ي أيضًا: محاضر جامعيّ صباحًا ومزارع جوافة مساءً
ليلى، ربّة منزل مكوّن من 20 فردًا هُم أبناؤها وأحفادها. فزوجها مريض ولا يستطيع العمل، لذلك تجد في الزراعة المنزلية حاجة مُلّحة للتخفيف من النفقات المالية الواقعة على كاهلها، واستثمارها لقطعة الأرض المجاورة لبيتها في زراعة ما يحتاجون من محاصيل، ساهم في تحقيق اكتفاء بنسبة 40% من الاحتياجات المنزليّة.
ففي أحواض بلاستيكية، تزرع ليلى النعناع، والملوخية والحمصيص، والخبيزة، وكذلك البصل الأخضر، والفلفل والفجل والجرجير والبقدونس والجرادة والبندورة والخيار والكوسا والباذنجان.
الزراعة المنزلية لم تعد مقتصرة على المناطق الريفية كما هو معروف، وكثيرًا ما تستوقفك عتبات المنازل في الأماكن الحضرية من قطاع غزة، لتراها مُحاطة بقوارير النعناع والريحان والجرير، وكذلك أحواض الخبيزة والبندورة وغيرها من المزروعات.
اقرأ/ي أيضًا: عنب الخليل في مهرجانه السادس.. ندرة وتنوع
عبد الوهاب عبيد (44 عامًا)، أبٌ لخمسة أبناء، فكّر بطريقة لاستثمار المساحة الفارغة في منزله، فأنشأ حديقة بيتيّة يعمل فيها مع زوجته وأبنائه الصغار. يقول عبيد لـ "الترا فلسطين" إنّه بدأ تنفيذ فكرته قبل ثلاثة أعوام، فاتجه لزراعة محاصيل مستهلكة بكثرة لديهم، ولا تكلّف كثيرًا، مثل الباذنجان والكوسا والخيار والبندورة والفلفل الأخضر والجرجير والبصل، والبقدونس والقرع.
وتُعد زراعة تلك المحاصيل في الحديقة المنزلية أكثر أمانًا للباحثين عن أغذية نظيفة وخالية من المبيدات الحشرية والأسمدة الكيماوية، كما أنّها توفّر من تكاليف الأطعمة في ظل ارتفاع أسعار الخضروات. وعن ذلك؛ يقول عبيد إنّه خفّض 50% من مصاريفه الأسبوعيّة منذ بدأ الزراعة في بيته، حيث يُهيّئ التربة للزراعة بين فترة وأخرى، ويمُدّها بالسماد الطبيعيّ المكوّن من روث الحيوانات والسماد والمواد العضوية، التي تخرج من منزله من نشارة خشب وورق الأشجار وبقايا الطعام وغيرها من المواد التي يخلطها مكونًا السماد الذي تحتاجه التربة لتكون صالحة للزراعة.
ويعتقد من يخشون تجربة الزراعة المنزليّة أنّ "المهمة صعبة ومعقدة" وتحتاج متخصصين بالزراعة، ويعملون بالمثل القائل "مشتراة العبد ولا تربايته"، فالسوق يُوفر لهم كل الخضروات اللازمة دون عناء. بينما يرى من خاضوا التجربة أنّ الأمر ليس بهذا التعقيد، إذ يُمكن استشارة أصحاب المشاتل الزراعية بكيفية زراعة محصول ما، سواءً كانت الزراعة في أحواض أو في مساحة واسعة.
اقرأ/ي أيضًا: انفوجرافيك: موسم الزيتون في فلسطين
آمنة الملفوح هي الأخرى تعتمد منذ (40 عامًا) بشكلٍ شبه كليّ على الزراعة المنزلية. وتقول إنّها بدأت منذ أيّام بتهيئة التربة في حوش منزلها لزراعة المزروعات الصيفية، التي تُحقق للعائلة اكتفاءً ذاتيًا، وفي بعض المواسم يُعرض الفائض في السوق لبيعه، خاصة الملوخية.
وفي تقرير لوزارة الزراعة بغزة فإنّ 5% من إجمالي إنتاج الخضروات والفواكه في القطاع، يأتي من الحدائق المنزليّة. ووفقاً لمدير عام الإدارة العامة للإرشاد بوزارة الزراعة بغزة، المهندس نزار الوحيدي، فإنّ الإحصائيّات لو ضمت إنتاج المناطق الريفية كبيت حانون شمالًا وخزاعة جنوبًا، فإنّ الإنتاج من الحدائق المنزلية سيرتفع إلى 15% تقريبًا.
وأكد الوحيدي في حديثه لـ"الترا فلسطين" أنّ هناك مشاتل زراعية مرخّصة من قبل الوزارة، وتُعطي للمواطنين مواصفات للأشتال المقبولة عند الوزارة.
اقرأ/ي أيضًا: "طريق الثوار خضرا".. تطويع الجبال الفلسطينية
ورأى أسامة نوفل المتخصص في الشؤون الاقتصادية أنّ انتشار الزراعة المنزلية وسط المجتمع بغزة له بُعدين؛ الأول يتعلق بالأمن الغذائي، والثاني يُوفر على ربّ المنزل جزءًا من النفقات المالية على المواد الاستهلاكية.
ووفقاً لتقارير اقتصادية فإن تكلفة الإنفاق على المواد الاستهلاكية تصِل 70% من دخل الفرد بغزة، وبالتالي لا بُدّ من بدائل أمام ربّ الأسرة سيما في ظل ارتفاع الأسعار.
ويُوضح نوفل أنّ محدودية الدخل وانتشار البطالة في المجتمع ساهم في نشر فكرة الزراعة المنزلية، ودعم التوجّه نحو خفض الإنفاق على الاستهلاك، والاستثمار في هذا المجال. فنسبة السكّان الذين يقطنون منازل خاصّة نسبة كبيرة، وهؤلاء بإمكانهم الحصول على المواد الأساسية للزراعة بتكاليف منخفضة، واستثمار أسطح وأفنية منازلهم دون أيّ "خسارة" قد تلحق بهم.
أن تصبح منازل الغزيين "حدائق خضراء" ربما تكون أولويّة مُلّحة خاصّة في ظل انحسار مساحات الأراضي الزراعيّة، جرّاء الامتداد العمراني، والتجريف الذي يمارسه الاحتلال بين حين وآخر.. هل يمكن أن تخوضوا التجربة في بيوتكم؟
اقرأ/ي أيضًا:
السلطة الفلسطينية.. فشلت حتى في زراعة البطيخ