فتح عايد أبو الهيجا، 64 عامًا، عصر الـ27 من آب/أغسطس الماضي، باب منزله للمرة الأخيرة، قبل أن يطلق عليه قنّاص إسرائيلي رصاصة هشمت رأسه، وأردته شهيدًا على عتبة منزله في مخيم نور شمس شرقيّ طولكرم، حيث عُرف عنه أنه "بسيط أو على البركة" وفق وصف عائلته ومعارفه، كناية عن حالته العقلية غير المستقرة التي جعلته من ذوي الاحتياجات الخاصة، وهو الذي كان في مطلع العشرين من عمره شابًا نجيبًا يحمل أمل عائلته، قبل أن يفجعها الاحتلال "بالتسبب بفصامه وتدمير مستقبله" ليقضي ما تبقى من عمره دون وعي، على غير طموحه وأملها، إلى أن عاد الاحتلال لينهيَ حياته بعد تدميرها.
كان عايد يعبث بباب منزله القديم، الواقع في مرمى القنّاص، غير مدركٍ خطورة فعله، لكن الاحتلال لم يكتف بقتله، فقد حال قناصوه دون خروج عائلته التي تسكن طوابق علوية في المبنى، ومنع وصول طواقم الإسعاف لإخلاء جثمانه الذي خشيت العائلة بدء تحلله، "حكوا لي إنه بستاهل إللي صار له، رغم أني أخبرتهم عن وضعه النفسي"؛ يروي هيثم خالد أبو الهيجا ابن شقيق عايد، الذي اقتحم 30 جنديًا منزله في اليوم التالي، واكتشفوا الجثمان الذي ظنّوه لأحد عناصر كتيبة المخيم قبل "أن يخيب ظنهم"، ثم أخرجوا العائلة وأطفالها للباحة الأمامية، مستخدمين إياهم دروعًا بشرية، وتحصنوا داخل منزلهم، وفجروا واجهاته الداخلية للانتقال منه إلى منزل آخر بالحيّ، كما شرح هيثم، غير آبهين بحال والده المسن ووالدته المصابة بالشلل.
ولد عايد عام 1960 لعائلة أبو الهيجا، التي لجأ بعضها إلى مخيم نور شمس من قرية عين حوض بحيفا عقب النكبة، ليجد نفسه طفلاً يشب ويدرس في مخيم للاجئين، وبرز ذكاؤه بين أقرانه
ولم تكن العائلة ستعلم باستشهاده، لو لم تتجرأ حفيدة أخيه حلا، على القفز من نافذتهم الخلفية متسللة لمنزله، وتُصعق بمشهده الذي أكد شكوكها: "قرابة السابعة مساءً، كان يفتح بابه ويغلقه، ذعرنا من صوت رصاصتين متفجرتين أصابت إحداهما نافذتنا، وسمعت أحدًا يلفظ أنفاسه... بحلول التاسعة قررنا أن آخذَ الطعام له وللاطمئنان عليه"، روت حلا بعينين متسعتين ويدين مرتعشتين للصحفيين عقب الحادثة كيف وجدت عايد غارقًا في دمه، ثم عادت إلى تعلم والدها هيثم، الذي قفز معها مجددًا، وسحب جثمان عايد "دون أن ينتبه القناص" ويغطيه، حيث بقي مسجىً على الأرض لعصر اليوم التالي، حين أخلاه الإسعاف بعد ترقب طال، تاركًا أثرًا غائرًا في ذاكرتهم، "متنا.. يومين ما نمنا على أعصابنا"؛ علّقت والدة حلا مسترجعة تفاصيل هلعهم.
القتل الأول: فقدان المستقبل قبل فقدان الحياة
ولد عايد، عام 1960 لعائلة أبو الهيجا، التي لجأ بعضها إلى مخيم نور شمس من قرية عين حوض بحيفا عقب النكبة، ليجد نفسه طفلاً يشب ويدرس في مخيم للاجئين، وبرز ذكاؤه بين أقرانه حسب شهادتهم، "كان في صفي، عبقري بمعنى الكلمة وشاطر من الأوائل، اجتماعي مع الناس ومحبوب من المعلمين" يصف محمد حميدي زميله عايد، الذي انتقل إلى دراسة اللغة الإنجليزية في معهد المعلمين في رام الله، وتخرج منه عام 1980، يحذوه الأمل للبدء بوظيفة جديدة، إلا أن جنود الاحتلال احتجزوه واعتدوا عليه بشدةٍ أدت إلى "تدهور صحته العقلية والنفسية تدريجيًا بعدها".
ويستذكر محمد السبع، زميل آخر لعايد، تلك الفترة: "أنهينا التوجيهي معًا، وانتقل درس في دار المعلمين، بعدها وبسبب الاحتلال أيضًا أصبح لديه ضغط نفسيًا، وانعزل عن الناس، عاش فقيرًا، والداه كانا مسنين وتوفيا، وبقي عند إخوته وأولادهم، كان ذكيًا ولماحًا... يعني انظلم في حياته"، فيما يستحضر ماهر حنّون إحدى معارف عائلة عايد كيف كانت تحتفي بتميزه: "كان يأتي مع والده وأخيه لصناعة مكانس القش بجوار منزل والدي بضاحية إكتابا، إذ اعتمدوا على بيعها في معيشتهم، وكانوا يفتخرون بما سيصبحه هذا الفتى البارع في الإنجليزية حين يُتِم تعليمه، ثم فوجئت بما حدث له".
صُعقت عائلة عايد بحادثته الأولى، كما وصف أخوه الأكبر خالد، 81 عامًا، مستذكرًا عودته للمنزل، واصطحابه إياه إلى الطبيب، وتسترجع خديجة، أختهما الصغرى، ما جرى آنذاك: "مش عارفة شو عملوله، يعني روّح مش زي ما كان قبل، فاقد عقله تقريبًا، صعب يعني واحد كان يدرّس الطلاب دورات، وفجأة انتهى مستقبله نهائيًا". ولم يخفَ أن العائلة رأت فيما جرى قتلًا لعايد، وإن ظلّ جسدًا على قيد الحياة "أكثر من مرة فقد مستقبله، الأولى لمّا ضربوه والثانية فقد حياته"، يؤكد هيثم.
ضياع عايد: مرآة لفاجعة سابقة
أعادت مأساة عايد عائلته في الزمن، فقد كانت قصته مرآة لفاجعة سابقة، عايشها أخوه أحمد أبو الهيجا، خريج معهد النجاح، الذي عمل أستاذًا في السعودية والأردن، قبل أن يعود إلى فلسطين، وتعتقله قوات الاحتلال على الجسر، ليخرج من سجونها بعد حوالي 6 أشهر، عانى خلالها من تعذيب شديد أذهب عقله أيضًا، وتوفي أحمد قبل 9 سنوات من ارتقاء أخيه، بعدما عاشا بذات الحالة العقلية تقريبا كما روت عائلتهما.
ولم يغب ذكر أحمد عن لسان أخويه خالد وخديجة، فقد سارعا إلى الحديث عنه بعد سرد قصة عايد، وكأنهما يرسمان صورة واحدة لا تكتمل إلا بكليهما، "أحمد انضرب قبل عايد"؛ نبه خالد، موضحًا: "في التعذيب فقد الوعي، وطلع مجنون من السجن...راحت عليه الوظيفة تخربط وفقد الوعي".
تقول خديجة: "كل إخوتي متعلمين الحمد لله، بس ما وصلوا عايد وأحمد بمرحلة الدراسة"، إذ حوّلت إسرائيل شابين يافعين كان من المنتظر أن ينعشا أسرتهما، إلى ألم.
وكان لعايد الذي شُخّص "بمرض فصاميّ مزمن"، حياة قضاها بشيء من العزلة والغرابة حينًا، والألفة لمحيطه من الأشخاص والأماكن حينًا آخر، "لقد كان حنونًا، رغم وضعه... خادم الكبير والصغير، يشتغل معهم ويساعدهم"؛ تعلّق خديجة، وتضيف حلا: "من قال فاقد الشيء لا يعطيه؟ بل يعيطه، عايد كان فقيرًا جدًا مع هيك كل شيء كان يأكله لازم يعزم عليه الناس، عايد من أطيب الناس!".
وكان له أن يتفاعل أيضًا مع وجود الكتيبة في المخيم، فحسبما وصفت خديجة، اعتاد عايد أفرادها ولفته نشاطها، "كان أبو شجاع (محمد الجابر قائد كتيبة نور شمس) يعطف عليه" تقول خديجة، التي أشارت إلى أنه بلغها أن عايد لاحظ غياب نقاط الكتيبة قبل استشهاده بيوم، فسأل عن "أبو شجاع" وحينما وجده، قال له: "مش تروح وتدشرني"، فأجابه أبو شجاع: "لأ أنا وياك مع بعض بنفس اليوم، سبحان الله كأن باب السما مفتوح!"، تضيف خديجة، إذ استشهد الجابر في ذات الاقتحام وخطف الاحتلال جثمانه رفقة شهيدين آخرين، فيما دفن جثمان عايد بعد انتظار قرابة 3 أيام، عقب انسحاب الاحتلال.
محو الوجود الفلسطيني: كلّنا عايدٌ محتمل
بينما كان يقص محمد السبع ما عرفه عن زميله عايد في مقاعد الدراسة، كانت تطلّ من إحدى الواجهات في محله صورة ابنه الوحيد رجائي، الذي قتله الاحتلال مستخدمًا إياه درعًا بشريًا على سطح منزله في نيسان/أبريل من العام الجاري، على مسمع من والده وطفله الأكبر.
لم يحمل نبأ استشهاد عايد له الاستغراب، بقدر ما أكّد اعتقاده أن "كل واحد منا معرض يصير فيه مثل عايد، لا أحد منّا محصن، لا أحد منا لدمه أو بيته حرمة... هو كان يجاهد يعني؟ انقتل في بيته زلمة مسكين".
"عدو مثل هذا مستوحش...بالنسبة إله الفلسطيني مش لازم يكون موجود!" أردف السبع. وأضاف أن كلّ من حضر لأداء واجب العزاء في المخيم، فاقدٌ سبقت تعزيته! أما على الجدار المواجه لمنزل عايد سترى صورة الطفل عديّ أبو الهيجا، 13 عامًا، حفيد أخيه خالد، الذي قتله الاحتلال في تشرين الأول/أكتوبر من العام الماضي، تعلوها خدوشٌ بعد محاولة جنود الاحتلال إزالتها عقب قتل عايد.