بينما يسوق الطفل ماجد محمد جهالين (14 عامًا) قطيع الأغنام للرعي فجرًا في صحراء شرق القدس، تحديدًا في محيط تجمّع أبو نوار السكانيّ المهدد بالترحيل لصالح توسيع مستوطنة "معاليه أدوميم"، تتقافز على مرأى عينيه الداكنتين في سُمرةٍ مُحببة صور الطبيعة الصحراوية الغنية بالجمال، لكن الطفل ما درى أن أمامه اختبارٌ جديد لتحليل هذه الصور، بل ومحاولة تمييز دوره في ظل كل معادلات التهجير التي يتعرض لها التجمع، وحياته الاجتماعية كبدوي تتذكره الأرض وينساه الإنسان، وكطفل يحلم بأمورٍ كثيرة قد لا ندرك نحن الكبار صورتها النهائية وخيطها الأول.
في شتاء 2017 قررت مؤسسة عبد المحسن القطان أن تقتحم باستئذان بيوت التجمع وخلوة أصحابه، بمشروع فني يحمل اسم "تدخلات مُغايرة"، وهو أحد مواليد المشروع الأكبر والمنطلق منذ سنوات "الثقافة والفنون والمشاركة المجتمعية" الذي استهدف بالإضافة إلى تجمع أبو نوار تجمعات أُخرى مهددة بالترحيل بين القدس وأريحا كالخان الأحمر والمهتوش.
يقوم "تدخلاتٍ مغايرة" على حثّ السكان المحليين عبر الشريحة المستهدفة، وهم الأطفال من سن (13 -16 عامًا) على التفكير بصريًا حول أمور خاصة في مجتمعهم من خلال الصور التي يلتقطونها بكاميرات قام مدرب التصوير الفنان والباحث في الفنون البصرية المعاصرة رؤوف حاج يحيى بتوزيعها على الأطفال؛ لالتقاط الصور على مدار أسبوع، قبل إيداعها في العهدة البصرية لمجموعة أخرى من الأطفال من باب التصوير التشاركي.
لمدة خمسة أشهر رافق الفنان حاج يحيى 12 طفلًا، محاولًا الوصول لعمق الحياة البدوية، رغم الحضور العنيف لمستوطنة "معاليه ادوميم" التي تظهر في العديد من الصور التي التقطها الأطفال، وكأنها بالفعل تحتلّ حيّزًا شخصيًا في حياة البدو هناك، وليس حيّزًا مكانيًا فقط، كما يقول لـ "الترا فلسطين".
لكن الأطفال أعادوا صياغة أنفسهم بصريًا بناءً على صورهم الجاهزة المتداولة في الصحافة والإعلام، وهذا ما حاول الحاج يحيى كسره وإخراج الأطفال من إطاره، ليرى الكيفية التي يرى الأطفال من خلالها أنفسهم.
خرجت الورشة بمواد فنيّة تتمثل بالصور التي أنتجها الأطفال وتم عرضها في معرض حمل ذات اسم المشروع "تدخلات مغايرة"
انتهى الشتاء وانتهت معه ورشة التصوير التي استمرت خمسة أشهر، وجاء الصيف ومعه حمل الشاعر ومعلم الكتابة الإبداعية زياد خداش أفكاره المتمردة على القوالب الجاهزة، واشتغل مع الأطفال ضمن ورشة كتابةٍ إبداعية، فيما بدأ المصمم ومنتج الرسوم المتحركة باسل نصر، ورشة الرسوم المتحركة التي أنجز في آخرها فيلمًا من إنتاج أطفال أبو نوار. بداية الفيلم تحكي عن توجه الطلبة إلى مدرستهم التي أقاموها على أنقاض المدرسة القديمة، التي هدمها الاحتلال وأحال صفوفها إلى رُكام.
"البدو منسيون أكثر ويأخذون اهتمامًا أقل؛ فالتركيز الفني دائمًا على المدن الكبيرة؛ لكن حجم التأثير في هذه المناطق المهمشة سيكون أكبر، كما من المهم أن يتعلم هؤلاء الأطفال تقنيات جديدة، أمّا اجتماعيًا فحتمًا سوف يتفاعلون مع أناس جدد، حتى مسألة التفاعل مهمة لنا نحن، نحن أيضًا نتفاعل مع أناس جدد، فالتجمعات البدوية نمرّ عليها في الطريق دون أن نعرف تفاصيل الحياة فيها"، يقول باسل نصر.
لكن حتى الورشة المتعلقة بالرسوم المتحركة، أثارت فضول الكبار والبالغين في تجمع أبو نوار، يُضيف نصر "إذ كانوا يسترقون النظر بين الفينة والأخرى، ويحاولون الاقتراب ليروا ما نفعله مع أطفالهم".
وحول إذا ما سيخرج فنان من بيئة بدوية، وما القيمة الإضافية التي ستُبرِز هويته الفنية والثقافية يقول: "قد يخرج الفنان من أي مكان، ربما يتأثر بي أو بغيري بعد ورشة فنية، لكن لا يوجد بالمجمل معاملة لخروج فنان من بيئة بدوية أو غيرها؛ لكن إذا خرج فنان من محيطٍ بدوي قد يستلم مهمة التأثير على محيطه بصورة تلقائية، خاصة أن في هذه التجمعات البدوية ما يحول دون الاختلاط بكل مكونات مجتمع البداوة؛ كالنساء والطفلات، وحتى الرجال والشباب الذين لا يتحسسون أهميةً في هذه المشاريع". كما أنتجت الإعلامية شروق أسعد فيلمًا قصيرًا يتحدث عن علاقة تجمع أبو نوار بمشروع تدخلات مغايرة.
رفض جميع الأطفال المشاركين التحدث إلينا وهم: أماني وخلود وإيمان وسارة وعمر وساجدة وعائشة وندى وهاجر ويسرى وجميعهم من عائلة جهالين، لكن أفلحنا في محاورة الشقيقين ماجد ورغد جهالين.
وحينما أردنا التحدث إلى الطفل ماجد الذي أشرنا إليه في بداية القصة، أخبرتنا والدته أنه يرعى الغنم، فانتظرنا حتى المغيب لنراه. يقول ماجد متلهفًا: "انبسطت كثير بالمشروع"، وكانت ورشة التصوير أكثر ما أحبّ فيه.
لماجد صديقةً مُقربة ليست من بني البشر إنها النعجة "شاري"، التي التقط ماجد صورةً لها وهي ترعى سطح الأرض الأخضر، عارضًا للجمهور درجة الحميمة التي تجمعه بإحدى نعاجه التي ترافقه في رحلةٍ يومية شاقة تحت عين الشمس وفوق سخونة الأرض، أمّا شقيقته رغد (15 عامًا) فقد التقطت صورةً لأخيها وهو يعتلي حماره فرحًا.
رغد بدت خجولةً وعنيدة عندما أردنا محادثتها، لكنها أخيرًا قبلت لتخبرنا أنها حظيت بدعم والديها أحمد ومريم، وأنها سعدت بأخذ الكاميرا إلى المنزل لتتمكن من التقاط المزيد من الصور في محيطها المعيشي، كانت رغدة تحلم بالطب مستقبلًا وبعد المشروع الغني بالالتفاتات الفنية صار حلمها يحوم حول التصوير والإعلام.
مشروع ومعرض "تدخلات مغايرة" الذي افتتحته مؤسسة القطان في 29 يوليو/ تموز الماضي يستمر لمدة شهر، قدّم كتابًا تحدّث فيه رؤوف الحاج يحيى وشروق حرب وعروبة عثمان عن جدوى هذه التدخلات، وإذا ما نجحوا فيها.
اقرأ/ي أيضًا:
صور | "مقارنات تأملية" معرض للفنون بغزة
فيديو | معرض "مواجهة".. لوحة تشكيلية رقمية
أبو جميل الريّس.. ملك "الأنتيك" في غزة