19-أكتوبر-2017

عندما كتبت المسوّدة الأولى من هذا المقال، وجدت نفسي أمام مأزق النسويّة الفلسطينية نفسه: هل أرفض ما يقبل به الاستعمار الصهيوني؟ القضية بالدرجة الأولى، هي نقاش حول خطة وزيرة القضاء الإسرائيلية إيلي شاكيد، الهادفة لحظر ومنع ظاهرة تعدد الزوجات بين فلسطينيي 48، وخاصة بين بدو النقب. إلّا أنّ القضية تبدأ بالتعقّد والتشابك وانعدام الوضوح عندما يتدرّج النقاش من نقاش حول قضيّة تعدد الزوجات، وينتهي بثقافة فلسطينية أصلانية، في مواجهة ثقافة استعمارية صهيونية.

 خطّة إسرائيليّة لمنع تعدد الزوجات بين فلسطينيي الداخل المحتل.. ثقافة فلسطينية في مواجهة ثقافة استعمارية صهيونية

هذا النقاش يحيل إلى نقاش آخر، أكثر اتساعًا وأكثر قدمًا، هو نقاش الاستشراق، الذي بدأه إدوارد سعيد في سبعينيات القرن الماضي، ولم ينته حتى اللحظة. الثقافة الأصلانية، في مواجهة الثقافة الغازية. ويمكن إجمال هذا النقاش، بالقول، فيما يتعلق بالخصوصية الإسلامية، والعربية الإسلامية تحديدًا، أنّ الغرب، أوروبا تحديدًا، نظرت دائمًا إلى الإسلام منذ لحظة الحداثة الأولى في أوروبا، أي عصر النهضة والتنوير الأوروبي، على أنّه ثقافة منحطة، لا تملك في داخلها أي ديناميكيات داخلية تستطيع دفعها إلى التطوّر الثقافي والحضاري، وقد رأت أوروبا العربي دائمًا فوق جمل أو امرأة. هذا التسطيح في النظرة الأوروبية، قد كان فعلًا سطحيًا على هذه الشاكلة التي يُختزل فيها العربيّ وثقافته إلى كائن منحط يعتنق ثقافة ودين منحطّين، واختُزلَتْ المرأة في هذه النّظرة بكونها التابع الأخرس للرجل.

وقد انعكس هذا التصور الاستشراقي دائمًا على علاقة الاستعمار بالشعوب الأصلية في المنطقة العربية. والآن، يأخذ هذا النقاش المتجدد والمتواصل، أهمية مع إعلان الحكومة الإسرائيلية عن خطة لمنع ظاهرة تعدد الزوجات بين الفلسطينيين، بحجة معلنة وغير معلنة: إذ تصرّح وزيرة القضاء أنّ الظاهرة: "تقوّض أركان النظام العام في مجتمع متنور ويلحق الأذى بالنساء والأطفال ممن يتعرضون للإهمال والفقر في كثير من الأحيان"، ويصرّح نتنياهو، رئيس الحكومة: أن الظاهرة تشكل تهديدًا للأمن القومي والوجودي لإسرائيل.

بين هذين التصريحين، نجد أنفسنا أمام ثنائيّة قديمة حديثة، فيما يتعلّق بأسس العلاقة بين المستعمِر والمستعمَرْ. أولاً: يضع الاستعمار الصهيوني، الفلسطيني وثقافته، في موضع الانحطاط الإنساني والثقافي، وينظر لهذه الثقافة بوصفها مزيج من البدائية والوحشية حتى وإن أخذت بعض المظاهر الحداثية. فالفلسطيني في نظر الصهيوني، مزيج من الإنسان الأول بملابس حديثة، في داخله، يقبع وحش بربري، غير قادر على تحديد مصلحته الشخصية ولا يملك القدرات البيولوجية على أن يكون متحضّرًا.

اقرأ/ي أيضًا: "واجب".. من أزقّة الناصرة إلى أبواب الأوسكار

من هذا الافتراض، يرى الإسرائيلي أحقيّته في تربية هذا الإنسان، أو قتله، أو على الأقل، منعه من التكاثر. إنّ التهديد الوجودي بالنسبة لإسرائيل، يختلف في جوهره عمّا نتصوّره عليه. إنه ليس تهديدًا بمعنى إنسان يهوديّ مقابل إنسان فلسطيني، بل هو إنسان يهوديّ مقابل إنسان بدائي فلسطيني، فالأصلاني دائمًا يقبع في منزلة سابقة للتطور الإنساني عن المستعمِرْ. ضمن هذا الإطار ترى الحكومة الإسرائيلية، المجموعة العرقية من الفلسطينيين الذين يسكنون بين ظهرانيّ اليهود، وكأنّهم طعنة بيولوجيّة في القلب من جسد العرق اليهودي المتفوّق، كان يجب التخلُّص منها في لحظة الترانسفير الكبرى "النكبة" عام 1948. 

وهنا يأتي سؤال النسويّة الفلسطينيّة ومأزقها، ومأزق الحركة الثقافية الفلسطينيّة عمومًا والاجتماعية. وهو مأزق القبول أو الرفض بما يقبل به الاستعمار الصهيوني. ليست المسألة مسألة تعدد الزوجات فقط، على الرغم من النقاش السابق على السياسة الاستعمارية حول هذه المسألة، دينيًا وثقافيًا، ولكن في بيئة ثقافية عربية فلسطينية أصيلة، ولا تتداخل مع السياسة الاستعمارية. إن وجود هذا المأزق، سابق على وجود هذا القانون المانع لتعدد الزوجات والذي يهدد المجتمع الفلسطيني في النقب، في ظل سياسة استيطانية تهدف إلى توسيع المجتمع الاستيطاني اليهودي في النقب. وهو سابق، لأن مسألة الحداثة والثقافة، فلسطينيًا، قد أهملت وقُمعَتْ على أيدي فلسطينيّة وبأصوات فلسطينية، كانت وما زالت تدّعي، لا أهميّة المسألة الثقافية في ظل حالة الاستعمار الصهيوني.

الآن، نجد أنفسنا، أمام أصوات فلسطينية، قد دُفعَت أو أرادت بحريّتها الخاصة، أن تنسجم مع السياسة الاستعمارية في النّظر إلى المجتمع العربي الفلسطيني، بوصفه مزيجًا من البدائية والوحشية الثقافية، لا بوصفه مجتمعًا مستعمرًا أصلانيًا، لم يستطع يومًا أن يمرُّ بتجربة الحداثة الخاصّة به بعيدًا عن ضغط الاستعمار وقمعه اليومي. قد يعتقد بعض الفلسطينيون، أنّهم ضحايا هذه الثقافة البربرية غير الحداثية، وقد يكونون على حقّ في ذلك، كونهم ضحايا، ولكن ليس في كونهم ضحايا لهذه الثقافة. هم محقُّون في كونهم ضحايا، لحالة سياسية أمنية بالأساس، في الداخل الفلسطيني المحتل، وفي الضفة الغربية وقطاع غزة، حالة أمنية سياسية فاشلة، متهتكة، تنتج فاشية اجتماعية وأمنية من نوع معيّن، تسيطر وتقمع الأفراد، وتطمس المساحة بين ما هو خاص وما هو عام.

ففي الحيّز الخاص، تتشكّل المسائل المتعلّقة بالأفراد ومنها تعدد الزوجات، وفي الحيّز الخاص، تتبلور اختيارات الإنسان الدينية والسياسية والثقافية، وهناك، لا يحق لأحد أن يحكم على هذه الخيارات بكونها متخلّفة أو بربرية أو وحشيّة. وفي الحيز العام، يمارس المجتمع وظائفه وواجباته تجاه أفراده والأفراد تجاه المجتمع. ويولد هذين الحيّزين، فقط عندما يملك المجتمع سيادته الخاصّة على أفراده، ويملك القدرة على تكوين مجتمعه المدنيّ ومجاله الحيوي القانوني والثقافي والسياسي، وبدون هذه القدرة تنعدم قدرة الأفراد أنفسهم على أن يكوّنوا لأنفسهم ذواتًا مستقلّة لا تخضع لقمع الجماعة.

هذا النقاش يحيلنا إلى نقطة أساسيّة: إن تعدد الزوجات، يخضع كما تخضع ظواهر أخرى، لشروط البيئة الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وإن مجرّد القول، بتخلُّف هذه الظاهرة، دونًا عن نظرة شمولية إلى المجتمع والثقافة ككل وصراعاتها اليومية والطبقية والاستعمارية، لا يتعدّى عن أن يكون استشراقًا متأثرًا ويسير في فلك التماهي مع الاستعمار الصهيوني نفسه.

وأخيرًا، ففي مقالة سابقة، بعنوان: إسرائيل عندما تعوّل على الواقي الذكري، يخلص الكاتب، إلى أن الهوس الإسرائيلي بالتهديد الديمغرافي الفلسطيني للوجود الإسرائيلي، هوس ثابت وأصيل في قناعات السلطة وسياساتها تجاه الفلسطينيين، ولا يتعلّق هذا الهوس فقط بكونه تبريرًا لجرائمها بحق الفلسطينيين. إلّا أن هذه القناعة لا توجد فقط لدى السلطة الإسرائيلية، بل ربما نجد هذه القناعة لدى بعض الفلسطينيين الذين يرون في مجتمعهم، مجرد قبيلة، ويرون فيها عائقًا أمامهم نحو الاندماج الكلّي مع المجتمع الاستعماري.


اقرأ/ي أيضًا:

القدرات الجنسية للأسرى السابقين.. السجن ما زال هنا

التعداد الإسرائيلي الأول: أنت تُحصى إذن أنت موجود!

أزمة "السياق" في تغطية قضايا الخط الأخضر