21-أكتوبر-2024
سليمان منصور غزة

لوحة من حرب عام 2014 على غزة للفنان سليمان منصور/ القدس- فلسطين

تخيل أن تُحصر برقم، تُقدر بوزن، وأن تنتهي بمظروف أو كرتونةٍ بالية، هذا هو هاجسي منذ عام، شاكلة النهاية وكيفيتها! أما عن مخاوف الحياة فهي انتزاعات من خيار البقاء، أكثر وأشد وإن لم تكن أكبر.

تخيل أن تُطوق بالنزف، تُستزف بالقلق، تُعصر باللوعة، تتبخر كما الجزيئات رغم اجتماع المواد فيك، تتحلل بلا عوامل، تحترق حتى الذوبان، وأن تُعلب كتلتك اللحمية بثلاجة الأطفال المفضلة، أن تُمسح عائلاتك في ليلة قمرية أو بعد احتفال فتمسي عابرًا، أن لا تُذكر، أن تُسحق في عين الإنسانية إلى اللاحد، إلى درجة الذر المتبدّد أو الرماد المنثور.

عامٌ ونحن ننام على القل والقلة، ونستيقظ على الحسرة والعجز، يغزونا القلق حتى الفتك، ننام على الهزال ونفيق على أعلاف الدواب حيث لا بديل

تخيّل أن تنهشك الكلاب، يخرج من جسدك الديدان، تُلقى لأيام للحشرات على قارعة الطريق، أو أن تغدو أحشائك دالية على أحد بقايا أعمدة المنزل المهدم، أن يتحوّل وجهك إلى محض دمية، أن يُعرَف هيكلك العظمي من بقايا مقتنياتك، أن تجد يدك في حديقة جارك، وأن ترتد قدمك بلا جناح فوق أسلاك الكهرباء، ثم يُلملم الجمع بعضك في مظروف فاكهة!

تخيل أن تصبح جمرًا تُقذف النار فيك وبك، أو أن تتحلّل تحت غطاء الكفن وتذوب مع ذرات التراب دون مطر، أو أن تتبخر قبل أن تتلقفك الأرض التي أنبتتك، أن تفتّت حيًا وميتًا ثمّ يُستكثر عليك الحجاب، فيوارى منك الثرى وتنثر بقاياك فوق الأرض.

تخيّل أن تنتهي تحت سقف المرحاض، قبل أن تتذوق ما تطهو، وأنت تستعد للنوم، تتجهّز للفرح، تنتظر حبيبًا على الشرفة، تتحسّس مشقة اللقم، أن تُقبض وأنت في الطريق إلى حضن أمك بعد غياب، عقب شرائك البهجة على هيئة ملابس للأطفال، إلى جانب شتلة قررت وإياها محاربة الجوع، أو في أعقاب اللقاء الأول بعد عمر من الاغتراب.

عامٌ فتكت بنا فيه الهواجس، نقلق فيه أكثر مما نطمئن، نجوع أكثر مما نشبع، عامٌ من الضيق واللااتساع، من الحسرة واللاحيلة، من الألم والسكون، تموت بالعجز، بالقصف، بالقنص، بالنزف، بالفقد، بالحسرة، بالفراق، باللوعة، بالجوع، بالمرض.. ولا مجال للانهيار.

عامٌ بات فيه حضن النازح خيمة، ومرآة الأسى مدرسة، ولهب المعاناة لوحة، نطهو على النار وتحتها، نغلي مر قهوتنا على الجمر ونقبض عليه.

نقبض إلى أن نُقبض، نؤدي "واجب الرباط"، فالتماسك هنا فرض وإن كان تحت بند التظاهر في عالم نعيشه بصورة عكسية حتى باتت الهشاشة تفرض المتانة، والقوة تنبع من الضعف، نمنح الأمان برجفة ونوزع الهدوء وفي دواخلنا فوضى، نسهر على الصحة بأجسادنا العليلة، نستحكم قوانا من قلب الخوار، ونوطد صمودنا بالثورة، ونرسخ المضيّ بالعقيدة.

عامٌ ونحن ننام على القل والقلة، ونستيقظ على الحسرة والعجز، يغزونا القلق حتى الفتك، ننام على الهزال ونفيق على أعلاف الدواب حيث لا بديل، نستنشق بخور أحلامنا، ونرقب مجهول الواقع، نسعى بين ألف شارع من أجل القطرات الملوثة، ونطوف بين الحشائش من أجل سد الرمق، أهوال في القلوب، على قوارع الطريق، في أقسام المشافي، على شرف الصباحات، فوق مآذن الليل، وأينما تولّي وجهك في غزة.

عامٌ والحرب تُسعّر قلقي وتُهذّب مخاوفي، تُطفأ روحي وتُشعل قلمي، عامٌ من السير بالاتكاء على عكاز القول المأثور: "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا"، أتحسس آيات الله في الأجل، بقول: (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَة)، وقوله: (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ).

عامٌ وأنا استقصي الإنسانية واستغرب الضمير، عامٌ من اتساع فجوة الكره والحب، عامٌ من الموت جهرًا، عامٌ من الحزن المكتوم والقهر المعلن، من الركض للعيش والركون تحت الفناء، وما من معتصم يجيب استغاثة الثكالى ولا يستنصر صرخة طفلةٍ نجت وحدها والحقيقة أنها لم تنجو.

عامٌ وأنا استغرب تحسسنا للحياة في مدار الموت، وسط طوقٍ يحاصر المصير، فتُمسي اللحظة فارقة، من دم، من تأهّب، من جَلَد، ومن النزوح قسرًا، أو الاحتضار إلى جانب الزيتون.

عامٌ على تزلزل القناعات وتثبّت العقيدة، عامٌ من لهفة الدعاء وتسلل اليأس، عامٌ من الاسترجاع والاستوداع، عامٌ من الحمد على النجاة والإثابة على الفقد، عامٌ على تجلّي الحقائق، وصراع الزائل على الوجود.

الحقائق والوجود.. كلمتان بينهما عالم يكشف لنا سر الثبات ووقود الانتفاضة، يوضح لنا صرامة القرار بالبقاء وضلاعة النضال. عامٌ وأنا أرى الأمل غيمة ثابتة، وكأن الأمل غارق في حب غزة، أو أن الغزيين غارقون في حب الأمل، كيف نعيش؟ كيف نحاول؟ كيف نتخفف بالبشرى من تثاقل المصاب، وكيف نسلّم أمرنا لله ولا نستسلم لسواه إلى أن يقع أمره بالغلبة والنصر.