13-يناير-2022

Getty

فُجِعَت بلدة عقربا جنوب نابلس -كما الوطن كُله- بحادث السير الذي وقع مساء الخميس (السادس من كانون ثان/ يناير 2022) على مفرق فصايل شمال أريحا، فأودى بحياة تسعة فتية من البلدة لا تزيد أعمار أكبرهم عن 17 عامًا، كانوا في طريق عودتهم لبلدتهم بعد أن أنهوا عملهم في مستوطنات الاحتلال في الأغوار المحتلة.

  فتحت الفاجعة باب النقاش حول كثير من المسائل المجتمعية المُلحة المتصلة بعمالة الأطفال وتسرّبهم من المدارس  

كانت الفاجعة فوق قُدرة بلدة عقربا على الاحتمال، ولذا سارع الوطن كُله للتخفيف عن المكلومين، عبر مئات الوفود التي حَلّت بالبلدة من كُل فلسطين مواسية ومعزّية ومتضامنة، ولم يغب المستوى الرسمي والشعبي والفصائلي عن الحدث الذي هزّ المجتمع ككل، كما ضجّت مواقع التواصل الاجتماعي برسائل التضامن ومواقف المؤازرة.

فتحت الفاجعة بثقلها باب النقاش والتساؤل حول كثير من المسائل المجتمعية المُلحة المتصلة بعمالة الأطفال وتسربهم من المدارس، واستهتار بعض مُقاولي العمل بحياة العمال، بالإضافة لإشكالية العمل في مستوطنات الاحتلال في الأغوار، هذه المستوطنات المُقامة على أراضٍ صودرت من أجداد العُمال الضحايا كأملاك غائبين أو مناطق عسكرية، فإذا هي حقول زراعية لصالح مستوطنين يستثمرون بها عبر تشغيل فتية دون السن القانوني.

هذه التساؤلات التي طُرحت بشكل غير مباشر وبعيدًا عن منصة الخطباء والمتحدثين الذين وقفوا في بيت العزاء، تُؤشر لطبيعة الخطر وغياب المسؤولية المجتمعية المنادية  بمُعالجة الظاهرة والبحث عن إجابة لما حدث، إجابة يُفترض أن تحول دون تكرار الفاجعة، واستمرار مأساة العمل بلا حقوق.

إن ظاهرة عمالة الأطفال وتسرّب بعضهم من المدارس ومسارعتهم لدخول معترك الحياة ليسهموا بتأمين قوت أسرهم في ضروف الحياة القاسية، أو جريًا من بعضهم خلف مُستقبل صعب، ينبغي أن تكون على طاولة صانع القرار الفلسطيني، فيقرأ المؤشرات الخطيرة التي تدفع الأطفال لينفروا من المدارس ويغادرونها بثقة منهم وتقبل من أهلهم، لِيُقبِلوا على العمل تحت ضروف قاسية وبلا أدنى حقوق وبرضى وتشجيع مُجتمعي.

 آخر من يُلام في هذه المآسي هُم الآباء  

إذا كان المنهاج التعليمي غير قادر على احتواء بعض الطلاب بعيدًا عن منطق العصا والجزرة وتحديد مستقبلهم بخانة العلامات التي تشير لمقدار خضوعهم للمنهج القائم على الحفظ والتلقين. وإذا كان المجتمع لا يرحم أحدًا ولا يُقدّر الظروف، في بلد يُحدد مستوى معيشته ذوو (القروش والكروش). فما الذي يستطيع الأب أن يُقدّمه لابنه وهو يرى عجز المنظومة السياسية كاملة عن تقديم نموذج يُحقق كرامة الإنسان بعيدًا عن الاستغلال والجشع والعمالة لدى الاحتلال. لذا فإن آخر من يُلام في هذه المآسي هُم الآباء وأول من يُلام هُم المسؤولون.

من المُسلّم به أن جودة التعليم ومضمونه وأساليبه، وتغيير علاقة الطالب بالمدرسة، وخلق فرص للتعليم المهني، ونقاش الأمر مجتمعيًا، هي مدخلنا لمحاربة ظاهرة التسرب وكره الأطفال للمدرسة. وهي لا تنفصل عن أزمة خريجي الجامعات وانعدام فرصهم في وظائف محترمة، الأمر الذي يجعل من التعليم من وجهة نظر بعض الطلاب مضيعة للوقت ينبغي تجنبها.

أين البديل؟ يسأل الأهالي الذين لا يُريدون لأبنائهم العمل في المستوطنات!  

البديل هنا من وجهة نظري ليس مكان وبيئة العمل، وإنما المنظومة التي تُعيد فكفكة المشكلة، وتؤسس لحل يحول دون لجوئنا لخيارات أفضلها غير أخلاقي. البديل الذي ينبغي أن يُقدم لمجتمع يعيش تحت الاحتلال هو بديل أخلاقي يصون كرامة الانسان ويحفظ حقّه ويعلي من قيمته في وطنه.

لا يمكن تقليب أوجه الفاجعة دون أن نشير بإصبع الاتهام للاحتلال الذي قتل الأمل لدى شعبنا وحوّلنا لعمال نبني حاضره كي لا نفنى ونحن تحت رحى مُتطلبات الحياة التي يُحددها ربط الاقتصاد الفلسطيني الناشئ باقتصاد الاحتلال المُسيطر. لا يُمكن إعفاء الاحتلال من المسؤولية عن مثل هذه الجريمة، فدوره في الفاجعة مُركب ويبدأ من سرقة الأرض ومصادرتها من أصحابها ثم تحويلها لمزارع لمستوطنيه القاطنين في الأغوار، مرورًا باستغلاله لأطفال دون السن القانوني، وتشغيل عمال دون حقوق وذلك على مدار سنوات طويلة.

ولن نكون ظالمين حين نُشير بإصبع الاتهام للمسؤول الفلسطيني الذي تقع ضمن مسؤوليته حماية أطفالنا وصون مُستقبلهم ومتابعة مشاكلهم وقضاياهم، ومنع اللصوص والسماسرة وظروف الحياة القاسية من سحقهم وسرقة أحلامهم. فالسلطة التي تستطيع خلق منظومة أمنية قادرة على السيطرة والملاحقة أولى بها العمل على تمتين بُنيتها المجتمعية وتحصين دعاماتها الأساسية، بحيث يكون هناك حياة كريمة بالحد الأدنى في القطاعات الأساسية كالتعليم والصحة والمسكن.

 لا يمكن تقليب أوجه الفاجعة دون أن نشير بإصبع الاتهام للاحتلال الذي قتل الأمل لدى شعبنا وحوّلنا لعمال نبني حاضره كي لا نفنى ونحن تحت رحى مُتطلبات الحياة  

وكشخص تألمت من وقع المصيبة، وكنت قريبًا من الأهالي، وأعرف تفاصيل كثيرة تتصل بموضوع العمل في مستوطنات الاحتلال فلن أُجَمِّلَ الأمر، وسأقول عن مسؤولية مُشغلي العمال العرب ومشرفيهم، إن جزءًا كبيرًا من المسؤولية تقع على عاتق هؤلاء، وهم مُطالبون قبل غيرهم بأن يتّقوا الله في أبناء شعبهم، فالمسؤول الذي يقبل بتشغيل أطفالٍ دون السن القانوني، والسائق الذي يحمل ضعف ما يُسمح له من ركاب، هؤلاء جزءٌ من المشكلة وينبغي ملاحقتهم ومحاسبتهم، وأن يكونوا أمام المساءلة الرسمية والمجتمعية.

غير أن ظاهرة العمل في المستوطنات تبقى الظاهرة الأكثر إزعاجًا، والأكثر تعقيدًا في المشهد الفلسطيني، وهي ظاهرة لا تحتاج لتنظير و"تصفيط" كلام بقدر ماهي بحاجة لجهود جماعية، وتحمّل للمسؤوليات والعمل على توفير البدائل الوطنية، وخلق ثقافة  مُجتمعية واعية لتبعات العمل في هذه المستوطنات.

تُنتج هذه المستوطنات الزراعية أجود أنواع التمور والخضار التي تُصدر للعالم وتغطي احتياجات سوقهم المحلي 

في حالة عقربا وعمّالها ينبغي أن يُثار موضوع مُصادرة الأراضي التي أقيمت عليها المستوطنات الزراعية، حيث تم إخلاء الرعاة وأصحاب المواشي من الأغوار بقوة السلاح خلال سنوات الاحتلال الأولى للضفة الغربية (1967-1973)، ثم منع الناس من زراعة السهول الخصبة في الغور، وقام جيش الاحتلال عام 1972 برشّ القمح بالمبيدات الزراعية فأحرقها ليمنع أصحابها من مجرد التفكير بزراعتها أو استغلالها.

منع الاحتلال للفلسطينين من الزراعة أو التواجد في الأغوار، ثم إباحتها للاستيطان،  ليتحوّل الغور لاحقًا لمزارع خصبة لخمس مستوطنات مقامة على أراضي عقربا في الغور هي (مسواة 1969)، و(بتسائيل 1972)، و(جيتيت 1972)، و(جلجال 1973)، و(شلومتصيون 1977).

وتُنتج هذه المستوطنات الزراعية أجود أنواع التمور والخضار التي تُصدر للعالم وتغطي احتياجات سوقهم المحلي، وهذه جريمة كبيرة يُضاف لها جريمة تشغيل أحفاد مُلاك الأرض وأصحابها، يتم تشغليهم بأراضيهم المُصادرة بلا أدنى حقوق أو احترام للقانون الذي يُحدد ما لهؤلاء العمال وما على مُشغليهم.


اقرأ/ي أيضًا:

الاستقلال الواهم.. ما حجم "استقلالنا" الاقتصادي؟