23-سبتمبر-2015

باول كوزنسكي/ بولندا

في الضفة الغربية، وأنت تدخل لحضور ورشة عمل أو مؤتمر ممول من مانح أوروبي أو غيره، وتحت ضغط ابتسامة الفتيات الجالسات عند طاولات الاستقبال، يحدث أن تفقد عقلك وصوابك ووعيك، وتستجيب لطلب الفتاة المختارة بعناية، حين تطلب منك أن تسجل حضورك على ورقة مليئة بالخانات، تستلمها مع "حقيبة المؤتمر"، وهي حقيبة مليئة بكل الأوراق والمعلومات التي لن تقرأها، باستثناء جدول أعمال المؤتمر وتحديدًا مواعيد الاستراحات والغداء.

حين تطبق جفنيك وتنام هانئًا، لا تعلم أن بريدك الإلكتروني دخل وأدخلك في مرحلة جديدة

في تلك الورقة توجد خانة البريد الإلكتروني، والغباء المطلق، هو أن تستجيب لطلب الفتاة أو تنخدع بابتسامتها وتكتب بريدك الإلكتروني هناك. حينها ستدخل في دوامة لا تنتهي.

في الوقت الذي تكون فيه تستمع بكثير من النعاس لكلمات المؤتمرين، تكون الفتيات في الخارج يستثمرن الوقت في تفريغ البيانات على ملف في حواسبيهن. وفي الوقت الذي تغادر فيه المؤتمر إلى بيتك أو المقهى لتتخلص من أثقال الكلام المجاني، ستكون الفتيات يستعجلن بإرسال القائمة إلى مديرهن أو مديرتهن ليتخلصن من المهمة الأهم والأصعب، "توسيع القائمة البريدية للمؤسسة".

وفي الوقت الذي تستلقي فيه على سريرك ليلًا وتتصفح هاتفك المحمول متدحرجًا على منحدرات فيسبوك، سيتأكد مدير المؤسسة من حجم القائمة ويُسَرّ من حجم الإنجاز، ويرسلها إلى المسؤول التقني ليضع غنيمة الإيميلات الجديدة مع القائمة الطويلة حصيلة عمل عدة سنوات. حين تطبق جفنيك وتنام هانئًا، لا تعلم أن بريدك الإلكتروني دخل وأدخلك في مرحلة جديدة.

بعد يومين حين ينتهي المؤتمر ستصلك أول رسالة على بريدك الإلكتروني من المؤسسة إياها، بيان صحفي مطول عن المؤتمر، بالتأكيد لن تقرأه وستسارع إلى حذفه ببساطة. سيتكرر الأمر كل يومين أو ثلاثة، خبر عن نشاط لا يعنيك تقوم به المؤسسة، وبيانات صحفية وتهنئات بمناسبات مختلفة ودعوات عامة، بعد حين ستتبرم من الرسائل، وتحاول حظر البريد المرسل منه، وفي الغالب لا تنجح.

ثم وفي ظهيرة مملة ستصلك رسالة إلكترونية من مؤسسة أخرى، تشبه المؤسسة الأولى، وسيستمر مسلسل المراسلات. بعد شهرين مثلًا، ستكتشف أن إيميلك مستهدف من مجموع مؤسسات المجتمع المدني وبعض المؤسسات الإعلامية وحفنة وزارات وشركات.

اقرأ/ي أيضا للكاتب: من الليمون والتفاح إلى البارود والقنابل

 كيف يعني حضوري ورشة لمؤسسة فرنسية، أن يصل بريدي الإلكتروني لجبهة التحرير العربية أو الجبهة العربية لتحرير فلسطين؟

تبدأ بتخيل الرحلة التي عبرها إيميلك المأسوف على خصوصيته، ربما طرد المدير السكرتيرة فانتقمت منه وسحبت القائمة البريدية كلها وقدمتها عربون وفاء للعمل الجديد، وربما رتبت مديرة مؤسسة شبيهة لمدير المؤسسة عشاء عمل مع مسؤول كبير أو ممول كريم فأرسل لها القائمة البريدية كرد جميل، معتبرًا أنها من أثمن منجزات عمله الطويل في الورشات والمؤتمرات والمنظمات غير الحكومية. ربما خطأ في إرسال رسالة ما، وصل بالقائمة كلها إلى وزارة أو مؤسسة إعلامية فسارع الموظفون للاحتفاظ بها وأضافوها إلى قائمتهم.

الخلاصة الحزينة أن بريدك الإلكتروني باتت تتلاطمه سيرفرات وخوادم جميع الجهات والمؤسسات في البلد، وكل ما يمكن فعله هو رصد حركة التنقلات المكوكية التي يقضيها إيميلك، من خلال رصد الجهات الجديدة التي بدأت ترسل لك رسائلها التي لا تعنيك في شيء. وبقدر ما تغدو اكتشافات أين وصل البريد الإلكتروني مملة ومستفزة ومزعجة، إلا أنها تحمل الكثير من المفاجآت، أهمها بالنسبة لي هي تلك الرسائل التي تصلني من أحزاب وحركات وفصائل فلسطينية، بيانات وإدانات وخطابات من عشرات الفصائل ورمزوها وقادتها وأبو- هاتها.

ويظهر السؤال ملحًا: كيف يعني حضوري لورشة ثقافية لمؤسسة فرنسية، أن يصل بريدي الإلكتروني لجبهة التحرير العربية أو الجبهة العربية لتحرير فلسطين أو الجبهة العربية الفلسطينية، وتمطرني ببياناتها؟!

في النهاية المستسلمة أحاول بكل طاقتي اكتشاف إيجابية واحدة من هجوم الرسائل هذا، واحدة فقط، وأكاد أيأس.

فجأة تصلني رسالة من أحد الفصائل، القائد "أبو إسحاق" لا يزال يدين ويستنكر ويثمّن! وقبل ذلك لا يزال حيًا!! "أبو إسحاق" كان من الحرس القديم في الحزب قبل أربعين عامًا، ولا يزال حيًا، يمكن أن يحسب الآن على الحرس الديناصوري بكل تأكيد.

أفكر بأبي إسحاق وأصدقائه وأحزابهم وفصائلهم، فأكتشف الإيجابية الوحيدة لهجوم الرسائل المقيت، بريدي الإلكتروني يذكرني بالفصائل الفلسطينية، يذكرني بفصائلنا جميعها حين أنسى وجودها تماما، لا تزال موجودة، حمدًا لله.

اقرأ/ي أيضا للكاتب: مكتبات الآخرين