تتنقل الرسامة العشرينية الشابة أسيل نسمان من خيمة إلى خيمة، حاملة معها ريشتها وألوانها والقليل المتوفر من أدوات فنية، تحافظ بها على موهبة تلازمها منذ نعومة أظفارها، وتوثّق بها يوميات مؤلمة وقاسية تعايشها منذ بدء اندلاع العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في 7 تشرين الأول\أكتوبر الماضي.
وبعد محطات نزوح كثيرة، بدأتها مع أسرتها من مدينة غزة في شمال القطاع، وقادتها لنحو ثلاثة شهور في خيمة مجاورة للحدود الفلسطينية المصرية في مدينة رفح أقصى جنوب القطاع، تقيم أسيل، 22 عامًا، حاليًا في خيمة داخل جامعة الأقصى بمنطقة مواصي خانيونس جنوب القطاع.
وتقول أسيل لـ"الترا فلسطين" إنها لا تشعر بالأمان، وقد تكون في أيّ لحظة على موعد جديد مع النزوح نحو محطة أخرى حيث المجهول و"اللامكان"، مضيفة أن "تجاربنا المريرة في هذه الحرب المجنونة تجعلنا نتوقع الأسوأ.. في أشدّ كوابيسي لم أتخيل أنني سأعيش يومًا في خيمة".
خيمة من أجل الفن
أقامت أسيل خيمة ميزتها بقماش بألوان زاهية وفتحات هندسية من وحي نظرتها الفنيّة، تجلس بها من من مطلع النهار حتى مغيب الشمس، تمارس بها فنّ الرسم على لوحات ورقية.
وتمزج أسيل بين ممارستها الرسم كعشق وموهبة، وبين توظيفه كمهنة تدرّ عليها بعض المال من أجل المساهمة في إعالة أسرتها، في ظلّ واقع معيشي متدهور فرضته الحرب الإسرائيلية والحصار الحاد.
ومقابل مبالغ زهيدة تراعي هذا الواقع الاقتصادي المتردي لغالبية الغزيين، خاصة النازحين في الخيام ومراكز الإيواء، ترسم أسيل لوحات "بورتريه" شخصية لأطفال، أو لأعزاء غيبهم الموت.
ولكن أساس الرسم بالنسبة لأسيل يبقى "التوثيق من أجل التاريخ"، وتقول إن الحرب فرضت عليها عناوين قاسية ودامية لمشاهد عايشتها أو مرّت بها، كفقد الأحبة بالقتل، والحياة داخل الخيام، والجرائم التي ارتكبتها قوات الاحتلال داخل المستشفيات ومراكز الإيواء.
لوحات من دم وألم
ومن بين لوحات أسيل، لوحة تصوّر أطفالاً ارتقوا شهداء جرّاء سياسة التجويع التي تنتهجها سلطات الاحتلال الإسرائيلي ضد زهاء مليوني فلسطيني في القطاع الساحلي الصغير، وتزداد حدة بحق بضع مئات من الغزيين تمسكّوا بالبقاء بمنازلهم ومناطقهم في مدينة غزة ومناطق شمال القطاع.
وفي لوحة أخرى، تقول إنها "رسمتها بالدموع قبل الريشة والألوان"، يظهر مشهدًا لأبٍ يحمل طفله الوحيد شهيدًا بنيران الاحتلال ويصرخ من شدة القهر والوجع، وفي لوحة أخرى رسمت مشهدًا ترك أثرًا في نفسها لأحد شهداء مستشفى الشفاء بمدينة غزة.
ومن بين اللوحات التي تتذكرها أسيل بكثير من الوجع، الضحايا من النساء اللواتي ارتقين شهداء في مجزرة استهداف الخيام في منطقة "بركسات الوكالة" بمدينة رفح، وهي مخازن تابعة لوكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا).
ولم تنس أسيل أن تخصص للأسرى مساحة في لوحاتها، وقد وثّقت إثر سياسات التعذيب على الأسرى الذين اعتقلتهم قوات الاحتلال من مناطق متفرقة من القطاع بعد اندلاع الحرب.
أحلام مؤجلة
تدرس أسيل بالسنة الرابعة تخصص التربية الفنيّة في جامعة الأقصى بمدينة غزة، وكانت على موعد مع التخرج لولا اندلاع الحرب وضياع سنتها الدراسية كما آلاف الطلبة الغزيين، ومن مفارقات ما عايشته خلال الحرب أنها انتقلت من مقاعد الدراسة في هذه الجامعة إلى نازحة في خيمة داخل ساحتها.
وتنظر الرسامة الشابة للرسم كمهنة سامية، قائلة: "أنا كرسامة مثل المسعف والعاملين في الدفاع المدني، كلنا لنا رسالة إنسانية، هم ينقذون الأرواح، وأنا أوثق ما يُرتكب بحقنا كمدنيين في غزة من جرائم مروعة، كي تبقى الذاكرة حية وكي لا تسقط هذه الجرائم مهما مرّت السنون، وتبقى موثّقة بأشكال مختلفة منها الرسم".
ورغم أن الرسم في زمن الحرب ليس سهلًا على أسيل كونها عانت من أجل الحصول على الأدوات الفنية التي ارتفع سعرها بشكل خيالي ، جرّاء الحصار الخانق الذي تفرضه سلطات الاحتلال وإغلاق المعابر، إلا أنها تكافح من أجل مواصلة الرسم وتوثيق يوميات الحرب.
خسرت أسيل مرسمها وضاعت لوحات رسمتها على مدار سنوات طويلة بسبب تدمير شقة أسرتها السكنية بمدينة غزة، لكنها لا تزال قادرة على الحلم والأمل في غدٍ أفضل، وبعد دعواتها لنفسها ولأسرتها وأحبتها بالنجاة مما وصفتها بـ "محرقة الحرب"، تحلم أسيل أن تنجو معها لوحاتها لتتمكن يومًا من السفر للخارج والمشاركة في معارض فنيّة متخصصة تعرض فيها هذه اللوحات الواقعية التي تمثّل حقبة دامية من تاريخ الشعب الفلسطيني.