حين صنعت المخرجة الفلسطينية المغتربة أسماء بسيسو فيلمها الوثائقي "سبع موجات" كانت تقصد فيلمًا وثائقيًا إنسانيًا هادئًا يصوّر الحياة العادية لمجاوري البحر في قطاع غزة، فحكت حكاية شابة سباحة اسمها بيسان زغرة وشاب صياد ومنقذ بحري اسمه محمد بكر، إذ يتنقل الفيلم بين حياة كل منهما وتفاصيلها بذكاء وخفة تعكسان حقيقة الحياة الاجتماعية والاقتصادية في غزة ومشاكلها.
لكن، هل انتهت قصة الفيلم هنا؟ لا، فقد تحوّل كل ما كانت تريده المخرجة إلى شيء آخر تمامًا، شيء لم تقصده، فلا يمكن أن تشاهد الفيلم ولا تبكي، بل قد تجهش بالبكاء، فأنت بهذا الفيلم تودع غزة، فقد صدر قبل الحرب المستمرة بشهر ٍواحد فقط، أيّ قبل دمار غزة والإبادة المستمرة منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر الماضي، ولم يبقَ شارع، أو ميناء، أو كورنيش أو حارة أو مدرسة يصورها الفيلم، إلّا وقد أصابها القصف والدمار بالآليات الإسرائيلية العسكرية الثقيلة.
الفيلم كان بمثابة الألبوم الأخير لغزة أو وثائقية الوداع، وفي حين كان من المفترض أن يقدّم الأمل والفرح في حياة شخصيتين تعشقان البحر، أصبح من الممكن أن يكون أمنيات أيامهما الأخيرة
الألبوم الأخير
لهذا كله، فإن الفيلم كان بمثابة الألبوم الأخير لغزة أو وثائقية الوداع، يُدخل المشاهد في تساؤلٍ وحيرة حول مصير شخصياته تحت الإبادة المستمرة واستشهاد عشرات الآلاف، لذلك يبقى السؤال مفتوحًا على كل الاحتمالات، وما كان من المفترض أن يقدّم الأمل والفرح في حياة شخصيتين تعشقان البحر، أصبح من الممكن أن يكون أمنيات أيامهما الأخيرة.
تقول المخرجة أسماء بسيسو عن ذلك في حديث لـ"الترا فلسطين" إن بطلَيْ الفيلم بيسان ومحمد بخير، لكنهما نازحين وفقدا كثيرًا من أصدقائهما وأفراد عائلتهما، كما لا تعرف مصير بقية من ظهر في الفيلم.
وتضيف، بقولها "بعد حرب الإبادة الأخيرة على قطاع غزة، وتدمير كل شيء له علاقة بهوية المكان وشكله وثقافته صرت أشعر أنّ الفيلم أيقونة تاريخيّة أرشيفيّة توثّق غزة وشوارعها وناسها".
وتشير إلى أنها "لا ترغب في أن تكون الصور ومقاطع الفيديو المؤلمة القادمة من غزة، آخر ما يعلق في ذهن المتلقي حين يذكر اسم غزة"، لذلك عملت على عرض فيلمها بأكثر من مكان.
وقد صُنع وعُرض الفيلم بين حربي 2021 و2024، وعمل عليه الكثير من حرفيي ومصوري غزة وقد استشهد بعضهم، أحدهم المصور رشدي السراج، الذي تهديه المخرجة الفيلم في نهايته، إذ أضافت بسيسو على نسخة الفيلم تترًا جديدًا للخاتمة عرضت فيها صورًا للجرائم الإسرائيلية على نغمات "لو مرة بس" لمغني الهيب هوب بيغ سام، وهذا جاء حين تابعت بسيسو أخبار الإبادة القادمة من غزة ورأت هول ما يحدث، بحسب كلامها مع "الترا فلسطين".
كان يمكن لفيلم "سبع موجات" أن يكون فيلمًا يشبه الأفلام الوثائقية الأخرى التي تتحدث عن البحر وحكايات أهله، لولا أنه انتشر بعد السابع من تشرين الأول/أكتوبر الماضي، لحياة كانت ذات يوم، فأصبح يحتفظ بصورٍ ومقاطع ثمينة لتلك الحياة في مدينة مدمرة اليوم
وعلى الرغم من أن الفيلم لا يزال جديدًا، إلا أنك تشاهده بعينٍ سابقة عمّا عليه غزة الآن، فمن الصعب أن تحضره دون أن تعيش حالة من النوستالجيا والحسرة، خاصة لو كنت من غزة أو وقعت بحبها يومًا، كما هي بسيسو وعائلتها، فقد جاء الفيلم عن البحر بالأساس بعد أن أوصاها والدها الراحل يومًا أن تصنع فيلمًا عن بحر غزة.
وبالفعل عملت بوصيته، بل صوّرت البحر في أغلب حالاته واقتربت من أمواجه لدرجة أنك تشمها وتشعر بملوحتها على لسانك، فالبحر الشخصية الرئيسية في الفيلم، تذهب الكاميرا وتعود إليه، تتنقل بين يوميات بيسان في المدرسة والتدريب والرياضة ومع صديقاتها وصنع الحلوى، وتعود إلى البحر، وبين تفاصيل محمد في برج الحراسة، وطبخ الحبار، ثم ترجع إلى البحر، هائجًا وهادئًا، ليلًا ونهارًا، في البرد وتحت الشمس.
بين الحصار والإبادة
كان يمكن لفيلم "سبع موجات" أن يكون فيلمًا يشبه الأفلام الوثائقية الأخرى التي تتحدث عن البحر وحكايات أهله، لولا أنه انتشر بعد السابع من تشرين الأول/أكتوبر الماضي، لحياةٍ كانت ذات يوم، فأصبح يحتفظ بصورٍ ومقاطع ثمينة لتلك الحياة في مدينة مدمرة اليوم.
وتصوّر المخرجة، شكوى بيسان ومحمد كلٍ على حدا في محيط حياته من ظروف الحصار الصعبة في قطاع غزة، فبيسان لا تستطيع أن تمارس هواياتها الرياضية بسهولة وسط نظرة مجتمعية معينة تجاه الفتاة، ومحمد ينتظر راتبه القليل في الأصل طوال العام كي يحصل عليه مرّة أو مرتين فقط، دون أفقٍ لتغيير حقيقي لكل منهما.
واليوم حدث التغيير نحو الأسوأ، بل تبدو تلك الشكاوى ترفًا إزاء ما يعانيه اليوم أهالي القطاع من إبادة تطال الجميع، فحق الحياة بالأساس سُلب، وما كان يبدو يأسًا وقتها أمام الشباب، أصبح الآن مجرد تنفسهم نجاة، في ظل استشهاد أكثر من أربعين ألفًا من سكان قطاع غزة.
تقول المخرجة بسيسو "حين رأيت هول ما يحدث قررت مقاطعة كافة المهرجانات الدولية، نتيجة المواقف المتحيزة للمهرجانات العالمية التي أرى أنها تسيء للقضية الفلسطينية، ولدماء الأطفال والنساء من الشهداء، وقررت أن يكون عرضي الأول في الأردن، وربما انتقل بعد ذلك إلى تلك الدول التي تدعم القضية الفلسطينية لعرض الفيلم".
والفيلم على عكس الحرب تمامًا يضجّ بالفرح والضحكات والمزاح، وتفاصيل الحياة اليومية بمدينة غزة، حيث لقاء الصديقات، ورقص الأطفال، وأعياد الميلاد البسيطة في المخيم، وطابور الصباح، وقعدة الشط على البحر، والتريّض على الكورنيش، فقد عبّر عن مدينة تتقن الحياة وسط الحصار قبل أن يباغتها الموت.
عودة إلى ذاكرة البحر الشعبية
ويأتي تفسير اسم الفيلم "السبع موجات"، حين يبدأ مشهده الافتتاحي للأمواج تتكسر تحت قارب صغير، وصوت سيدة كبيرة بالسن تقول: "... السبع موجات، يعني الوحدة لما بدها تخلّف بياخدوها على البحر وبغطسوها في سبع موجات عشان تخلف، آه..وبتحبل.. وبتزبط بالآخر".
وفي البحث عن أصل الحكاية نجد أنه في الممارسات الطقسية في التراث الشعبي التي ارتبطت بموسم أيوب، المعروف بـ"أربعاء أيّوب"، حيث كان يحتفل فلاحو البحر بالقدرات السحرية لمياه المتوسط على شفاء الأمراض والخصوبة وتطهير الأجسام وطرد الأرواح الشريرة وزواج الفتيات اللواتي لم يأتيهن الحظ بعد، فترمي النساء نفسها على أمواج البحر لترتطم بها، بحسب كتاب "الجبل ضد البحر" لأستاذ علم الاجتماع والباحث سليم تماري.
البحر في فيلم بسيسو هو الباقي الوحيد على شكله الأول ولم تدمره الصواريخ أو تدوسه دبابة، وهو الذي ما يزال يدل على هويّة المدينة الساحلية التي يعشقها أهلها
واعتبر تماري في كتابه أن النسيج الاجتماعي بدّل كل هذه الطقوس، التي بقيت إلى ما بعد النكبة بعدة سنوات، واستبدلت بحسب أوامر الجهة الحاكمة لغزة وبحرها، فالحاكم المصريّ استبدل احتفالات أولياء البحر بشمّ النسيم، ثم جاء حاملو الأفكار الأصولية، واعتبروا هذه العادات دخيلة ويجب محاربتها.
ومع ذلك لا تزال هذه الطقوس عالقة في ذهن عدد كبير من العائلات اللاجئة والقادمة من مختلف المدن الفلسطينية، ويرى تماري في الكتاب أن البحر بغزة في وجدان المهاجرين والفلاحين يعني استمرارية لبحر يافا وأسدود، ووجد فيه اللاجئون فرصة لإعادة صياغة هويتهم الجماعية بعد أن كانت الحروب المتعددة تدمرها.
كما أن البحر في فيلم بسيسو هو الباقي الوحيد على شكله الأول ولم تدمره الصواريخ أو تدوسه دبابة، وهو الذي ما يزال يدل على هويّة المدينة الساحلية التي يعشقها أهلها.