تخرج من منزلها صباحًا على حين غفلة من أهل حارتها، تنظر يمينًا وشمالًا لتتقي أسئلة تقرأها في عيونهم "على الطلعة والنزلة.. إلى أين ذاهبة"، فهي ليست طالبة جامعة أو موظفة لتخرج مبكرًا في هذا الوقت، ولو علموا أن مقت الحياة دفعها لأن تعمل مدبرة منزل أو كما يسمونها "خادمة منازل"، فستأكلها العيون قبل الألسنة.
تحمل فاتن النعايمة التي قاربت على الثلاثين من عمرها، كيسها البلاستيكي الأسود، وتغادر فيه بحذر وقد وضعت ملابس مخصصة ترتديها أثناء عملها في المنازل التي تعمل بها، سواء في تنظيفها أو رعاية مسنين فيها، وهو عمل اضطرها إليه افتقادها "للشيكل الذي أشتهي أن يكون بيدي في كثير من الأحيان" كما قالت في حديثها لـ الترا فلسطين.
مدبرات منازل في غزة يعملن سرًا، خوفًا من "كلام الناس"
تقول فاتن، فارعة الطول شاحبة لون البشرة: "أعيش أنا وأمي وإخوتي الستة في منزل متواضع، أبي عاجز، إخوتي لا يعملون ونتلقى مساعدة من الشؤون الاجتماعية مرة كل ثلاثة إلى أربعة أشهر".
شاهد/ي أيضًا: معلو المدارس الخاصة.. أداة في ماكنة استثمارية
تنقم على الـ1800شيقل التي تتلقاها أسرتها بتساؤلات أرادت من خلالها أن تمهد لسبب عملها كـ"خادمة"، تقول: "ما الذي يمكن أن يفعله مبلغ كهذا في هذه الشهور لعائلة كل أبنائها تقريبًا من الشباب، هل نفتح أفواهنا ليأتينا الرزق، أم نعمل أي عمل نأكل منه العيش؟".
عمل شريف ولكن
هو عمل "شريف" كما وصفته فاتن، لكنها "ثقافة العيب" ونظرة المجتمع الرقيب والحسيب، والعادات والتقاليد التي تهين المرأة الخادمة، مناقضة في ذلك حب هذا المجتمع ككل المجتمعات وشغفهم بقصة الخادمة "سندريلا" الشهيرة.
توضح فاتن طبيعة عملها وكيف تصل إلى المنازل التي تعمل مدبرة فيها بالقول: "لدي معارف على علم باستعدادي لأقوم بهذا العمل، وطبيعة عملي تنظيف منزل، وهو الأكثر تعبًا وصعوبة لأن عليّ أن أقوم بتعزيل وتشطيب نظافته من الألف للياء خلال ساعات معينة... حسب ظروف أهله".
تتابع، "رغم أني أتعب وأشعر أحيانًا بالإهانة، إلا أن أجرة عرقي تنسيني ذلك بمجرد أن أستلمها، فبها أقضي احتياجات كثيرة لي". وإلى جانب الخدمة المنزلية، تتولى فاتن أيضًا "رعاية مسنين من أكل وشرب وملبس وأدوية وما شابه خلال فترة النهار، أو خلال خروج أفراد العائلة حتى يعودوا للمنزل".
"أم عبود أبو هربيد"، سيدة متزوجة لها ثمانية أطفال، توفي زوجها قبل ثلاثة أعوام ونصف بعد صراع مع المرض، رغم أن موته كان مفجعًا إلا أنه خفف عنها عذاب مسؤوليته كونها كانت تطعمه بنفسها وتعاني من توفير ثمن الحفاظات كبيرة الحجم له، بالإضافة لعلاجه المتواصل، كلها أمور دفعتها للعمل في الخدمة داخل المنازل منذ سنوات.
تقول الأربعينية وهي من سكان شمال القطاع: "العوزة عملت فينا الكثير، عملت حينما كان زوجي حيًا خادمة في المنازل، لأواجه ضغط الحياة الذي تركه لي حتى وهو بجانبي سنوات بسبب مرضه المزمن، كنت أدبّر أمري وأوصي معارفي أن يجدوا لي أي شغلانة تجلب لي المال إلا أن نتسول".
الإساءة إليهن كلاميًا
لم تترك عمل التدبير المنزلي بعد وفاة زوجها بُعيد هدم منزلهم خلال العدوان الإسرائيلي على القطاع صيف عام 2014، بل تمسكت به، "لأن الحياة قست علينا كثيرًا وأصبحنا نعتاش على كابونات المتضررين، وتشردنا مدة غير قصيرة ثم استأجرنا منزلًا وأصبحت أعاني من تأخر دفعات الإيجار من الوكالة".
وأظهرت نتائج مسح أجراه الإحصاء الفلسطيني ونشره في نيسان/إبريل المنصرم، أن نسبة الفقراء وصلت إلى ما يزيد عن نصف السكان في قطاع غزة، فقد بلغت 53%.
"أسلافي كل في همه وأبنائه وأخوتي هدمت لهم منازل، وابني الكبير يحتاج من يقف معه ليدير البيت"، تقول "أم عبود" شارحة سبب عملها، رغم أن أتعابها لا تتعدى الـ100 شيقل في أكبر مهمة، وهي تعزيل منزل واحد لساعات نهار طويلة. لكن هذه السيدة لا تعمل خفية، فصعوبة الحياة التي تعيشها والظروف المرّة التي تعرضت لها أكبر بكثير من أن تلقي اهتمامًا لهذه النظرة.
"حاول إخوة زوجي أن يمنعوني على أساس أني أجلب لهم الكلام بهذا العمل، لكني واجهتهم بصريح العبارة: من يريد أن يمنع عملي فليأتِ لي بوظيفة أخرى"
تقول: "سمعت الكثير من الكلام وواجهت النفاق في تعامل من حولي، وحاول إخوة زوجي أن يمنعوني على أساس أني أجلب لهم الكلام بهذا العمل، لكني واجهتهم بصريح العبارة: من يريد أن يمنع عملي فليأتِ لي بوظيفة أخرى أو أن يتولى أمورنا".
شاهد/ي أيضًا: فيديو | عن عمال فلسطين في يوم العمال
من حسن حظ بعض من الراغبات في الخدمة بالمنازل أو المؤسسات مقابل أجور أنهنّ وجدن ضالتهن نحو هذا العمل في إحدى الشركات التي أنشئت من أجل تنظيم عمل "المدبرات"، وهو ما تعتبره (س.ش) أفضل بكثير من أن تبحث بنفسها عن الخدمة في المنازل.
تشرح لنا - وقد فضَّلت عدم ذكر اسمها - طبيعة عملها قائلة: "كنت في السابق أبحث عن هذا العمل بشكل حساس من خلال صديقاتي، وكانت تأتيني اتصالات من سيدات ومؤسسات للخدمة، كنت أشعر خلال بعضها بالإحراج". تستدرك، "لكن توجهت لشركة تنظم عمل المدبرات، بالتوسط بيني وبين من يطلب الخدمة منها، فتتصل بي الشركة من مقرها وتوصلني بسيارة مخصصة إلى المنزل أو المكان المطلوب".
"حتى المنظم لم يسلم"
هذا التنظيم المؤسسي أشعَر (س.ش) ذات الخمسة وثلاثين عامًا بالراحة والرضا في عملها، رغم أنها كما تقول: "أعاني من نظرة من حولي، حتى أن لفظ مدبرة لا يعرفونه، ويعتبرون أنني أخدم في البيوت".
شركة "وايت بال" هي التي تقصدها (س.ش)، وهي حديثة العهد تعمل في قطاع غزة ولها فرع في الضفة الغربية أيضًا. تحدثت مديرتها حنان الشيببي بأسف لـ الترا فلسطين عن صعوبات ومحاذير تواجهها العاملات في المنازل، حتى أن الشركة تواجه نظرة المجتمع "الرجعية" لعملهن.
تقول الشيبي: "الخادمة هي مدبرة منزل، تؤدي خدمتها كأي عامل في مهنة أخرى سواء رجل أو امرأة، ونحن كشركة ننظم عمل المدبرات، ونرفض أن يتم نعتهن بالخادمات، رغم أن اللفظ بحد ذاته لا مشكلة فيه لفظًا واصطلاحًا".
وتضيف، "داخل مقر الشركة متوفر كل شيء، كل أدوات النظيف والرعاية وما يلزم لأداء أي خدمة، ليس فقط للمنازل وإنما للشركات والمؤسسات والأبراج والمباني السكنية، وهنا توزيع للعمل بين السيدات، فهن يعملن في الشركة كموظفات ويتم نقلهن بسيارة للشركة بالإضافة لأتعابهن".
لكن كل هذا التنظيم لم يكن ليضع حدًا لمعاناتهن، وحسب الشيبي فإن "بعضهن عانين من عدم معرفة ذويهن بطبيعة العمل، وأخريات تركن العمل بحجة الظروف الاجتماعية، وهذا كله بسبب كابوس المجتمع".
اقرأ/ي أيضًا:
مستشفيات غزة: إكراميات مقابل العمل.. من المسؤول؟