يصنف مئات الأطفال في قطاع غزة كـ«سوابق» على ضوء تكرار الإقدام على جريمتي السرقة والسطو بذريعة الأوضاع الاقتصادية المتردية، إذ بلغ إجمالي الموقوفين على هاتين الجريمتين خلال سنوات (2014-2015-2016)، 1225 طفلاً، من مجمل 2540 أوقفوا على خلفية جرائم متعددة، بما يؤكد أنه يوقف يوميًا طفلٌ واحدٌ على الأقل على خلفية الجريمتين الآنفتين.
ويبدو واضحًا أن التدهور الاقتصادي الذي يعانيه القطاع، يقف سببًا رئيسيًا وراء تنامي مستوى الجريمتين بين الأطفال في قطاع غزة؛ الذي يعاني من نسبة بطالة بلغت 43%، حسب بيانات الجهاز المركزي للإحصاء، دون توجهٍ واضحٍ من المؤسسة الرسمية لوضع حد للظاهرة حفاظًا على مستقبل هؤلاء الأطفال.
1225 طفلاً من قطاع غزة أوقفوا بين عامي (2014 – 2016) على خلفية السرقة، بمعدل طفل واحد على الأقل يوميًا
الطفل سالم (اسم مستعار) مصنفٌ كمجرمٍ ويقضي حكمًا بالسجن ستة أشهر على خلفية ارتكابه جريمة سرقة، لا يمكنه تحديد مصيره بعد انقضاء فترة محكوميته، وأغلب ظنه أنه سيعود لممارسة عمله في بيع المناديل على المفترقات الرئيسية بمدينة غزة، دون وجود أي أفق للعودة إلى مقاعد الدراسة، خاصة أن والده متعطلٌ عن العمل منذ وقت.
اقرأ/ي أيضًا: خيمة للزواج.. حُلمٌ مستحيل في سوسيا
ويبدو "سالم" فاقدًا للثقة بنفسه؛ عندما أراد الإجابة على سؤال: هل تملك القدرة على إقناع أسرتك بالعودة لإكمال دراستك الإعدادية؟ حيث أجاب بعد ترددٍ وهو يزم شفتيه "كلا"، في دلالة واضحة على أن الطفل لديه الرغبة الكاملة في الرجوع إلى المدرسة، بيد أن اسرته المكونة من تسعة أفراد ترفض ذلك تحت وطأة الظروف الاقتصادية الصعبة التي تمر بها.
وتحتم المسؤولية القانونية وفقا للبند الثالث من المادة «69» من قانون الطفل الفلسطيني رقم «7» لسنة «2004»، أن تيسر الدولة لكل طفلٍ أُسندت إليه تهمة، إعادة اندماجه وقيامه بدور بناء في المجتمع.
بيد أن عواد أبو حدايد المدير السابق لمؤسسة "الربيع" الخاصة برعاية الأطفال الأحداث التابعة لوزارة الشؤون الإجتماعية، يوجه لومًا كبيرًا إلى الطاقم الإداري الذي سبقه في إدارة المؤسسة، "لعدم وضعه خطةً حقيقيةً للتعامل مع الأطفال الأحداث، بما يضمن لهم البيئة الآمنة"، وفق قوله.
يقول أبو حدايد لـ"ألترا فلسطين": "وضعنا خطة أسهمت في تقليص عدد الأطفال الأحداث من خلال متابعتهم عبر مراقبي السلوك"، مشددًا على أن الانقسام والحصار أسهما بشكلٍ مباشرٍ في مضاعفة أعداد الأطفال الأحداث في القطاع خلال السنوات الأخيرة.
لكن أبو حدايد، صاحب الخطة المذكورة آنفًا، غادر منصبه في رئاسة مؤسسة الربيع بعد عامٍ واحدٍ من تعيينه فيه.
يتقاطع قول أبو حدايد، مع ما تأكيد المدير الحالي لـ«الربيع» أنور عطية، على أن الوضع الاقتصادي المتردي أسهم بشكلٍ أساسيٍ في تفشي جريمتي السرقة والسطو في أوساط الأطفال، قائلاً: "يجد الطفل نفسه محرومًا من الكثير من الأشياء، ما يدفعه لمد يده أو السرقة"، دون الإشارة إلى الجهد الذي يمكن أن تبذله مؤسسته في حماية هؤلاء الأطفال مستقبلاً.
وتتشابه قصة الحدث سالم مع عشرات القصص داخل "الربيع"، إلى درجة أن الطفل وليد (اسم مستعار) موقوفٌ بتهمة سرقة حذاء، وقد علل جنوحه بالقول: "لقد سرقته لأني لا أملك حذاءً".
ويقضي وليد، الذي لم يرد اسمه في سجلات الأحداث سابقًا، حكمًا بالسجن لشهر كامل، لكنه متخوفٌ على مستقبله بشكل كبير.
"ألترا فلسطين" أعد قاعدة بياناتٍ حول أعداد الأطفال الجانحين الموقوفين داخل "الربيع" خلال الأعوام الثلاثة، اشتملت على أدق التفاصيل المتعلقة بنوعية التهم، والفئات العمرية، والمستوى التعليمي، وطبيعة عمل أولياء الأمور، والحالة الزوجية للأبوين، وغيرها.
بعد إخضاع البيانات إلى التحليل، اتضح أن 48% من الجانحين أوقفوا على خلفية جريمتي السرقة والسطو، فيما كان غالبية آبائهم متعطلين عن العمل بسبب ظروف الحصار، وأكثر من 90% من أمهاتهم ربات بيوت.
ما تقدم؛ تقاطع نسبيًا مع ما أظهرته نتائج دراسةٍ بحثيةٍ صدرت في تشرين الأول/أكتوبر 2016 عن مؤسسة الضمير لحقوق الإنسان، حول احترام وتعزيز وحماية الأحداث الجانحين في غزة، حيث أفادت أن 54,5% من الجرائم التي ارتكبها الأحداث هي جريمة السرقة.
وقد أوغل الحدث خليل (اسم مستعار) في جريمة السرقة، بزعم المشاركة في إعالة أسرته على أثر تعطل والده عن العمل بسبب المرض، وقد أكد لنا، بقيامه في المرة الأولى بسرقة دراجة هوائية، فيما استطاع في المرة الثانية سرقة هاتفٍ نقالٍ، من أحد المحال التجارية بمدينة غزة.
خليل (16 عامًا) الذي غادر مقاعد الدراسة باكرًا تحت وطأة الظروف المادية الصعبة التي تعانيها أسرته المكونة من 8 أفراد، يشير إلى أنه اضطر لارتكاب هذا الجريمة للمساهمة في توفير لقمة عيش لأسرته.
نسبة الطلبة المخالفين للقانون الجنائي في قطاع غزة 75%، ما يعني أن الجريمة تركزت في أوساط الطلبة وليس المنقطعين عن الدراسة
وطبقاً للبيانات التي قمنا بتحليلها، فإن نسبة الطلبة المخالفين للقانون الجنائي بلغت 75%، ما يعني أن الجريمة تركزت في أوساط الطلبة الأطفال وليس المنقطعين عن الدراسة
اقرأ/ي أيضًا: مليونيرية يقودون عصابات "الشيكات البنكيّة"
ويكشف أطفالٌ جانحين عن تغرير آبائهم بهم للولوج في وحل السرقة، "بهدف جلب المال الذي ييسر عملية الحصول على الطعام والشراب".
يقول الفتى وائل (اسم مستعار)، إن والده كان يدفعه للسرقة بذريعة إطعام أشقائه السبعة، علمًا أن الأب يعمل بائعًا للمناديل الورقية على المفترقات العامة، وفق ما أخبر الفتى.
ويقضي وائل (16 عامًا) حكمًا بالسجن ستة أشهر على خلفية سرقة 1000 شيكل (ما يعادل 260 دولار) من أحد محال البقالة في مدينة غزة. ويشير إلى أن والده لم يقم حتى بزيارته أو السؤال عنه، منذ إيقافه قبل ثلاثة أشهر، وهو ما أكدته أيضًا إدارة "الربيع".
ولم يشكك المحامي فادي حمد المختص بالدفاع عن الأطفال الأحداث في غزة، في رواية الطفل وائل، ويقول: "هناك أطفال وقعوا ضحية أولياء أمورهم، ولكن الأغلبية منهم اقترفوا جناية السطو أو جنحة السرقة بدافع إعالة أسرهم".
وأكد حمد في سياق حديثه لـ"ألترا فلسطين"، أن الأوضاع عامةً ساهمت في مضاعفة أعداد الأطفال الموقوفين على خلفية هاتين الجريمتين، مع الإشارة إلى أن عاملي "رفاق السوء والبيئة المحيطة" أسهما أيضًا في زيادة نسبة الجريمة في أوساط الأطفال الأحداث.
ويؤكد عطية "مدير الربيع" أيضًا أنه تكرر إيقاف أطفالٍ وقعوا ضحايا لأولياء أمورهم، مبينًا، أن عددًا كبيرًا منهم دفع بهم آباؤهم للنزول إلى الشارع، وأرغموهم على العمل ورفضوا استقبالهم في البيوت قبل أن يستكملوا الحد الأدنى من العائد اليومي المطلوب توفيره (20 شيكل) أي ما يعادل خمسة دولارات.
في غزة يطرد آباءٌ أبناءهم إذ لم يوفروا يوميًا 5 دولارات، وبعض الآباء دفعوا أبناءهم للسرقة ثم قاطعوهم بعد كشف أمرهم
واستناداً للأرقام التي جمعها "ألترا فلسطين"، فإن نسبة الأحداث تركزت في الفئة العمرية (13-15 عامًا)، وفي محافظة غزة على وجه الخصوص. وأسقطت عملية تحليل البيانات فرضية أن يكون انفصال الزوجين سببًا في دفع الأطفال للإقدام على جريمة السرقة، لأنه لم يسجل خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة سوى 26 حالة فقط، كان الزوجان فيها منفصلين.
وتصف منظمة الأمم المتحدة لحماية الأطفال "اليونيسف" وضع أطفال غزة في مواجهة العنف في بيئة لا تكفل لهم حتى احتياجاتك الأساسية من الغذاء والمأوى بـ«الأمر مرعب»، مضيفة، في سياق تقرير مفصل أوردته على صفحتها على الإنترنت، أن الأسر غالبًا ما ترسل أطفالها إلى سوق العمل نتيجة الوضع القائم.
وحسب التقرير، فإن 95% من الأطفال الذين تتراوح أعمارهم من عام واحد إلى (14 عامًا) يعانون من العدوان النفسي أو العقاب البدني.
وتدق هذه المعطيات والحقائق ناقوس الخطر بأننا سنكون مستقبلاً أمام "مجتمع مجرم"، إذا لم تتكامل المساعي الحكومية والمجتمعية لوضع حدٍ لهذه الظاهرة، خاصة أن الأطفال يشكلون حاليًا نصف المجتمع الفلسطيني، وفق معطياتٍ رسمية.
اقرأ/ي أيضًا:
تقرير "أمان" عن القضاء والفساد وأشياء أخرى!