23-سبتمبر-2018

مساء التاسع عشر من يوليو/ تموز المنصرم، لم يكن حالي على ما يرام، ظننت أنها أعراض إنفلونزا ستزول مع الخلود للنوم وتناول حبة مسكن. عند الثالثة فجرًا أيقنت أن الأمر لا يمت للإنفلونزا بصلة؛ ولأن الطب أبو الحلول - يُفترض ذلك - صبّرت الجسد المُنهك بحرارةٍ تُقارب 39 حتى الصباح.

توجهت صباحًا إلى إحدى مستشفيات رام الله الخاصة، وبعد إجراء صورة تلفزيونية للبطن كان لا بد من استشارة جراح، لكنه رفض القدوم إلى جناح الطوارئ لسببٍ أجهله، فانسحبت على عجل إلى مجمع فلسطين الطبي، دخلت أحد الأقسام، وتلقيت إبر المسكنات والسوائل لمدة تقارب الساعة، أخبرني الطبيب أن الألم سيزول، وإذا ما عاد يجب أن أعود فورًا للمشفى.

جرثومة بسيطة لم يستطع الأطباء في مستشفى بيت جالا اكتشفها خلال زيارتين استمرت الثانية منهما أيامًا، وأخرجوني دون تشخيص الحالة وإنهاء الوجع

نمت ليلة الخميس وكانت شبه هادئة، توجهت صباح الجمعة لزيارة أهلي في بيت لحم، عاد الألم فظننت أن السبب يتعلق بتأخير تناولي المسكن، قضيت الجمعة متناسية، ثم صحوت فجر السبت وأنا بحالٍ مُزرية، فتوجهت برفقة والدي لمشفى بيت جالا الحكومي، حيث قرر الأطباء وضعي تحت المراقبة.

في اليوم الأول جاء طبيب من قسم الجراحة غاضبًا بسبب إدخالي للقسم، سألني عن الأعراض فأوضحتها. توقف مستهزئًا: "كيف زبطت معك هدول الأعراض مع بعض؟ قلت له: سألتني فأجبتك،"وإذا زعلان من أطباء الطوارئ مش ذنبي، مش أنا إلي قررت أنام لو علي بقعدش ع التخت"، ذهب وهنا بدأت "البهدلة".

في اليوم الثاني أتاني الأطباء طالبين فحوصات طبية مع الأمر بعدم تناول الطعام ولا الماء، وأن لا يدخل عبر الوريد مسكنات وسوائل لا غير، وتراجع الوجع مع كتائب المضادات الحيوية. هذا حوار اليوم الثالث مع الطبيب المسؤول:

- كيف اليوم يا فاطمة؟

- منيحة الحمد لله راح كل الوجع

- مش قلتلك رح يروح

- طب دكتور أنا مالي؟

- على ما يبدو تسمم معوي قديم هيك بنرجح، بالصور والفحوصات ما بين معنا شي، بلشي اشربي مي، أكتبولها خروج.

بعد أقل من أسبوعين أصابتني انتكاسة جديدة، أُدخلت للمستشفى مرةً أخرى، وهذه أصعب بكثير، لم أتمالك نفسي من حدة الألم، هاتفت أخي والتقينا عند باب المستشفى، اصطحبني إلى الطوارئ، تأخر الدور وأنا أتلوى كحية الطريق، أخي يواسيني "يلا يا خية يلا"، دخلنا غرفة الممرضة وقلت لها: ما بدي ممرضين جيبولي دكتور هسا أنا نايمة من قبل. فأجابت، "هذا القانون".

استندت على أخي أكثر من مرة وقد شعرتُ أني سأفقد الوعي، تمددتُ بمساعدته فأغلق الستارة ثم وقف في ساحة الطوارئ قائلاً: شو رايكو تموت وأنتو تتفرجوا عليها؟ أجاب الممرض: "ما تعصب علينا بس يجي الدكتور حاسبه". جاء الطبيب:

- أنا شايفك قبل هالمرة؟

- أنا هي.. والوجع الآن أشد

طلب الطبيب، الممرضة، تزويدي بـ"ترِبل" وهو من أنواع المسكنات أو المضادات الحيوية. بعد مرور فترة من الزمن كان الألم يأتي ساعات ويغيب دقائق فقط، بينما تتعالى صرخاتي. في هذه الغضون أخي يعقد المشاورات مع الأطباء! الطوارئ تستدعي طبيب الجراحة، أُحول إلى قسم الأشعة، ثم قسمًا آخر، يأتي أبي الذي انصدم من هول منظري، كنت على كرسي متحرك، وجهي كان شاحبًا كما الأموات، عيوني ذابلة من شدة البكاء، غير قادرة على الوقوف بمفردي، ضغطي منخفض، النفسية ذهبت ولم تعد.

لم تُظهر الصور أي شيء، وهي فحص بالأشعة العادية للصدر، وصورة طبقية للبطن، وفحوصات الدم وما إلى ذلك.

أرجعني أبي وأخي إلى سرير الطوارئ انتظارًا لقرار الأطباء، جاء والدي إلى حافة سريري حزينا وهشًا. جاء طبيب نعرفه نحن العائلة، قال له والدي:

- إذا البنت عندها إشي خطير خبروني، .. أنا بتحمل والله بتحمل الصدمات.

- لا لا فش اشي

- طب مالها؟

- إحنا اليوم رح نخليها عندنا وبكرا بنشوف.

تراجع الوجع. وعندما قاربت الساعة الحادية عشرة حُولت إلى الأقسام العلوية، بعد ساعتين أتاني ثلاثة أطباء من بينهم طبيب الجراحة مقدمًا لي ثلاثة ترجيحات لحالتي منها التهاب في القولون، وخيارٌ آخر، وكلاهما يحتاج إجراء الناظور، قُهر شيطاني في حينها من بعد ما أثبت الوجع أنه ابن حرام، قلت في نفسي جاء الفرج سيتم تشخيصي هذه المرة جيدًا.

في الصباح عادت حليمة! مر الأطباء وسألوني عن الألم قلت: على حاله، شعروا بالاستغراب فأمروا بفحوصات أُخرى كالسابقة، اُستدعي أطباء أقسام أخرى فتنبهت أن حالتي أغلب الظن مُستعصية. والدتي التي كانت ترافقني ذبلت بجانب السرير، وكلما جاء الأطباء في جولة نادت عليهم وكأنها ولدتني للتو: طب يا دكتور شو مالها!

- لسا مش عارفين يا حجة

هنا السؤال يبدو صعلوكاً بعض الشيء، ما الذي كان ينقص الأطباء ليعرفوا؟ ناظور؟ لِمَ لمْ يفعلوا؟ صورة رنين مغناطيسي؟ لمَ لمْ يفعلوا؟ تحويل لمشفى آخر؟ لم يفعلوا

طبيب الباطني قال لي "دكاترة الجراحة بقرروا". وأطباء الجراحة قالوا: "ما شافك طبيب الباطني؟".

عندما استدعى قسم الجراحة طبيب الباطني للاستشارة قال لي: "دكاترة الجراحة هم بقرروا". وعندما جاء أطباء الجراحة قالوا: "هو ما شافك طبيب الباطني؟".

في اليوم الثالث دعوني أخبركم أني فقدت القدرة على مغادرة السرير أو حتى التقلب بسهولة دون ذراع أمي، سقطت في الغرفة وعلى باب دورة المياه مرارًا، حالتي النفسية تسوء، والأدهى أن معدتي أخرجت عصارتها على مدار يومين. في اليوم الرابع، وقبلها بساعات صحوت على ألمٍ شديد في يدي اليمنى. بعد ساعات جلست بصعوبة بالقرب من الشرفة، نسيتُ سبب دخولي للمستشفى، وظل همي الأبرز وقتها الخروج من الزنزانة التي حُبست فيها إداريًا دون تشخيص! غفوت بعض الوقت على السرير، صحوت وقد تركت عقلي على الوسادة، وتوجهت إلى الممرضين شارحةً لهم عدم قدرتي على البقاء في المستشفى على الأقل على المستوى المعنوي، نصحتني الممرضة بالخروج مع طلوع الشمس على مسؤوليتي.

صعَّدت احتجاجي؛ رفضت تلقي الأدوية عبر الوريد وبقيت الأكياس مركونة كما التشخيص إلى جانبي، جاء ممرض لسحب الدم فطردته بصوتٍ عالٍ: "أنا معنديش دم". جاء الممرضون فقلت: "أنا بديش حدا أنا بديش حد يحكي معي". جاء والدي فخاطبته: "هسا يابا بدك إطلعني".

- طيب يابا إهدي، ما أنا من يومين بدي أطلعك ع مستشفى خاص وما رضيتي.

- كيف أرضى وأنا في مستشفى أدفع لتأمين العلاج فيه سنويا؟ مستشفى بأكمله يعجز عن تشخيص ألم في البطن! كابرت على نفسي وجازفت بالبقاء لأجل أن أرى نهاية الأمر. جاء الأطباء وقبلها اجتمع بهم والدي الذي طلب مني أن الهدوء، وأن أرد بتهذيب. وهذا ما لم يحصل:

- كيف إنت اليوم؟

- منيحة وفش عندي وجع بالمرة.. قلتها بكثير من السخرية

- طبيب آخر: اتصلوا عليا من المشفى الفجر خبروني رافضة توخذي العلاج!

- علاج شو دكتور؟ العلاج يعني في مشكلة أنا إيش مشكلتي؟!

"المريضة هذه متدخلش عندي ع القسم مرة ثانية" قال الطبيب عندما سألته لماذا لم يكتشف وجعي

- طب امبارح بالساحة الي عند الطوارئ كُنتِ تضحكي، ليش هسا قلبتِ! يريد الطبيب محاسبتي على مداعبة ابنة أخي، نسيت يا من أقسم باسم أبو قراط أن ألبس الأسود وأوزع نعوتي، لماذا لم تكتب لي الطريقة المثلى لردود الفعل أثناء مكوثي عندكم! قال "رئيس الجولة":

- إذا فش وجع هسا طلعوها. قالها بامتعاض، وكأن المسألة بهذه السهولة! وبكثير من التحدي والمعاندة قلت له:

- قبل أن أخرج الآن أريد معرفة سبب إدخالي إلى المستشفى وسبب الإقرار بإخراجي.

-  إحنا ما بين معنا شي بالفحوصات.

أوعز الطبيب لطبيب آخر أقل منه درجة:

- هاي المريضة ما تتدخلش عندي عالقسم مرة ثانية!!

كنت أود تأدية تحية السلام الرسمية للطبيب لكن حالتي الجسدية لم تكن تسمح! ذهب والدي عقبها لمديرة المستشفى طالبًا توضيحًا لما يحدث، أو تحويلها إلى أطباء أكثر خبرة. قال الأطباء للمديرة: "فعلنا كل شيء وما بين معها شيء والوجع راح". أجابت، "خرجوها ما دام فش إشي". سأل أبي: "يعني بنفع اطلعوها بدون ما نعرف شو كان معها؟".

جاء والدي لمساعدتي على توضيب نفسي للخروج قائلاً: "هذول مش عارفين إشي رح أوخذك بس تصحصي ع أشطر دكتور خاص".

لاحقًا، تذكرت أني كنت قد توجهت لمجمع فلسطين الطبي قبل الدخول إلى مستشفى الحسين، وقد أمر طبيب الجراحة حينها بعمل فحوصات زراعة، طلبت النتائج فتبين فيها وجود جرثومة، تلقيت المضادات الحيوية وأجّلت الذهاب للطبيب الخاص؛ ظنا أنها السبب الوحيد، وعدت إلى عملي الذي انقطعت عنه أكثر من شهر. بعد مرور أسبوع من تشخيص الجرثومة، أقفلت عائدة إلى بيت لحم بسبب عودة الألم، هاتفت طبيبًا معروفًا بمهارته العالية وخبرته الواسعة وقال لي: تعالي في الغد للضرورة.

نظر الطبيب إلي مشدوها وبكثيرٍ من الذهول: "نمتِ بالمشفى مرتين بدون إجراء صورة الرنين المغناطيسي ولا ناظور!"

عندما أخبرت الطبيب بما كان. نظر إلي مشدوها وبكثيرٍ من الذهول: "نمتِ بالمشفى مرتين بدون إجراء صورة الرنين المغناطيسي ولا ناظور!". قام بفحصي، وقبل ذلك طلبت من الطبيب الإنصات إلي بدقة وفهم نفسيتي.

اتضح أن مجمع فلسطين الطبي قطع خطوات خجولة في الطريق إلى تشخيص الجرثومة التي تسببت بمضاعفات مؤلمة، وأن ترجيحات مستشفى الحسين حول التشخيص خاطئة. ومن ستر الله وفضله أن الطبيب أخبرني بزوالها الأكيد بعد فترة قصيرة، وأن المسألة ليست خطيرة؛ وذلك بالمتابعة الطبية، وتناول الأدوية، والعمل على تصحيح الجانب المعنوي. سألت الطبيب هل لديك رشاش؟ ضحك وفهم المقصد.

لم أتقدم بشكوى بعد ضد المستشفى، ولا أعرف قدرتي على نسيان هذه الأيام العصيبة، لكن حان الوقت ليقف المسؤولون على ضعف المنظومة الطبية التي تُصر عليها المستشفى منذ سنوات، وقد طفح كيل أهل محافظة بيت لحم منها.

كصحفية ومريضة رأيت بعيني ولم يخبرني أحد هذه المرة، عشت التجربة بكل مرارتها، بيت جالا الحكومي يتحمل مسؤولية المضاعفات، وسوء التشخيص بل وعدم صحته، وازدراء الأطباء واستهانتهم بوضعي الصحي والنفسي، وعدم استنفاد الإجراءات الطبية المناسبة، علاوةً عن تعطيلي عن عملي، وزيادة الضغط النفسي علي وعلى عائلتي. المزاودات التي شعرت بها بين الأطباء والأقسام حول حالتي جعلتني أشعر أنني لا أساوي شيئًا، سأتعوذ كلما مررت بجانبها: تنذكر وما تنعاد.


اقرأ/ي أيضًا: