13-أكتوبر-2015

علم الجزائر قرب القدس (تصوير فارس جودة)

أهداني جدي الميلود، وقد عاد صيفًا من فرنسا ليُمضي عطلته السنوية، مذياعًا كان مدرستي الأولى، قبل أن أدخل المدرسة الابتدائية أصلًا. عن طريقه عرفت أسماء العواصم والملوك والأمراء والرؤساء والكتاب والمغنين وحركات المقاومة في العالم، يا إلهي، لقد كان ذلك الطفل يعرف "حركة التأميل" في سيريلانكا، و"حركة خلق" في إيران، وحركة تحرير إريتريا، وما كان يحدث في إقليم ناغورني كاراباخ، أما ما كان يحدث في فلسطين، فقد كان ملمًّا به إلمامه بما يحدث في حوش بيته.

بفضل "صوت فلسطين" الذي كانت تبثه الإذاعة الجزائرية، كنت ملمًا بما يحدث هناك كما لو أنه يحدث في حوش البيت

يرجع الفضل في ذلك إلى برنامج "صوت فلسطين" الذي كانت تبثه الإذاعة الوطنية الجزائرية يوميًا، من السادسة إلى السابعة مساء، قبل أن يتوقف عند عودة السلطة الوطنية الفلسطينية إلى رام الله، كثمرة لاتفاق أوسلو. كان أبي لا يفوّت هذا البرنامج، وعنه أخذت ذلك، فصرت أحفظ الأناشيد الفلسطينية، وأعرف أسماء القرى والحركات المقاومة وأسماء وجوهها، بل إنني كنت ألتقط أسماء الشهداء اسمًا.. اسمًا، فلا تفارق ذاكرتي إلا بعد شهور عديدة.

حين التحقتُ بالمدرسة لأول مرة منتصفَ ثمانينيات القرن العشرين، سألنا المعلم: "من منكم يحفظ النشيد الوطني؟"، فكنتُ أكثرَ المتحمسين. أعطاني الكلمة، فانطلقت في عرض نشيد "موطني"، بحماس دفعني إلى أن أرفع صوتي وأغمض عيني، وجعلني لا أنتبه إلى المعلم وهو يصحّح لي: "هذا نشيد فلسطين السابق، أقصد النشيد الوطني الجزائري قسمًا"، وهو ما أثار حولي نوبة من الضحكات.

في المساء، وأنا عائد إلى البيت، في كوكبة من التلاميذ الذي كانوا يركبون أحمرتهم، اعتليت صخرة، وأطلقت عقيرتي بـ"موطني" حتى تجمّع الأطفال حول الصخرة، مرددين النشيد الوطني الجزائري، وأظنها من أندر اللحظات التي التحم فيها النشيدان، تجسيدًا عفويًا لالتحام الشعبين الذي تؤطره المقولة الجزائرية الراسخة: "نحن مع فلسطين ظالمة أو مظلومة".

ذاك التماهي مع أخبار الانتفاضة الأولى التي كان يغذيني بها برنامج "صوت فلسطين"، ذكر الله الأحياء ممن كانوا يعدّونه ويقدّمونه بخير، ورحم من رحل منهم، جعلني مرة أغرق في خيال تسبّب لي في وجبة من الضرب، لم أنسها إلى غاية هذه اللحظة.

تخيلت نفسي في فلسطين، أتقدّم كوكبة من الشباب الملثمين، في هجوم بالحجارة على دورية للاحتلال. كنت وحدي في الحقيقة أعلى البيت، وكنت في الخيال أرمي بالحجارة بكل قوتي، وأنا أصرخ "تحيا فلسطين.. تحيا فلسطين". لم أدرِ في غمرة "الجهاد" أن إحدى تلك الأحجار المتحمسة، قد أصابت أبي، وهو يصلح قرميد البيت، ولم أتفطن إلى أنه ترك شغله وجاء إلي. أمسك يدي وانتزع الحجارة منها، ثم طرحني أرضًا، وهو يُردّد" "ألم أقل لك.. لا تقذف بالحجارة؟". ظننتُ أنه جندي إسرائيلي، ورحتُ أستعمل قاموسًا لا يُقال للآباء، فقابل ذلك بضرب مبرّح، جعلني أخرج من الحالة، وأشرح له سياقها.

تذكرت هذا كله، وأنا أشاهد شباب فلسطين، يتدثرون هذه الأيام، بالعلم الوطني الجزائري، وشباب الفريق العسكري الجزائري لكرة القدم، يرددون اسم فلسطين، في غمرة احتفالهم بالفوز بكأس العالم في كوريا.

اقرأ/ي للكاتب:
القبر

"جنوب الملح".. رواية اليتم الأبدي