يبدو أنّ أزمة الهويّة قد فعلت فعلها بنا، فرحنا نتشبّث بيدٍ خبيثةٍ تزيد غرقنا أكثر، وبتنا نجهل عن أنفسنا أكثر ممّا نعرف، وأصبحنا –نحن السوريّين- نردّد بقصدٍ أو بدون قصدٍ كلّ ما نراه ونسمعه وكأننا فقدنا سمعنا وأبصارنا وذاكرتنا، ونمشي على خطى الفلسطينيّين –الخاطئة- في انتهاج أحد الخطابين: "المظلوميّة والبطولة"، أو كليهما! حتّى نسينا العاديّ والطبيعيّ لحساب غير العاديّ، ونسينا الإنسان لحساب الأسطورة، وصدّقنا رواية النظام السوريّ عنّا بأنّنا إرهابيّون، وإلّا لما تنطّحنا للدفاع عن أنفسنا عند كلّ ظهورٍ لشيء جميلٍ "عاديّ"، ولما تبنّينا الصورة النمطيّة التي وُضِعنا/وَضَعنا أنفسنا فيها وصرنا نبحث عن خلاصٍ "فرديّ" منها!
نردّد بقصدٍ أو بدون قصدٍ كلّ ما نراه ونسمعه وكأننا فقدنا سمعنا وأبصارنا وذاكرتنا
أفهم أن تنشر صحيفةٌ "ألمانيّة" خبرًا يقول: "لاجئة سوريّة وجدت 1000 يورو وأعادتها"، باعتبار أن الألمان لا يعرفون عن السوريّين شيئًا، وهذا النوع من الأفعال أو الأخبار قد يخفّف حساسيّةً ما، سببها الصورة النمطيّة والجهل، وأقبلها بكل إيجابيّة، ولكن أن ننشر نحن الخبر، ونفرح به ونحتفل، ونهلّل لهذا الفعل العظيم النادر! فهذا أمر غريب! احتفال السوريين بأمانةِ امرأةٍ فعلت أمرًا طبيعيًّا، يعني إخراجه من خانة الطبيعي واعتباره إنجازًا، وكأنّ العاديّ لدى السوريّين أن يسرقوا الأموال!؟
اقرأ/ي أيضًا: الانتفاضة حدثت.. أغلقوا باب الردة
حدثٌ عاديّ جدًا، يحصل كلّ يومٍ في كلّ مكان في العالم، وفي سورية، أحدهم يجد نقودًا أو هاتفًا أو محفظة، فيعيدها، هذا ليس غريبًا، الغريب هو ألّا تعاد الأمانة، وأن يسرق أحدنا هاتف أحدهم أو محفظته، هذا هو الغريب، وإن لم يكن هذا الغريب! فهذه مشكلة كبيرة!
نعم، يشكر كلّ السوريّين الأمناء على أمانتهم –الطبيعية جدًا- ونعتزّ بهم وبأنّنا شعب يتمتّع بالنبل والأخلاق العالية، لكن الانجرار وراء هذا النوع من التهليل يسيء لنا بقصد أو بدون قصد، فإذا كان طبيعيًا ومعمّمًا في سورية أن نفعل ما فعلته المرأة، فلماذا كلّ هذا الاحتفال وكأنّه أمرٌ نادر؟! وإن لم يكن معمّمًا وطبيعيًا، فصدقوني، لن تتحسّن الصورة بحادثة هنا وحادثة هناك مهما هُلِّلَ لها!
بقرارٍ واعٍ، أو عن لا وعي، نحنُ ننجرّ إلى وضع أنفسنا في قوالب جاهزة
بقرارٍ واعٍ، أو عن لاوعي، نحنُ ننجرّ إلى وضع أنفسنا في قوالب جاهزة، ربّما تعجب البعض ليظهر تميّزه عمّا يروّج له من إساءات لمجتمعه، فيظهر بصورة بالبطل أمامَ الآخر، وربّما لكثرة ما حلّ بنا رحنا نبحث عن أيّ شيء "عاديّ" لنقول: هذا أنا، وهؤلاء نحن. في أزمة واضحة في مسألة الهويّة ترتكز على خطاب المظلوميّة المكرر، هذا البحث عن الهويّة المأزومة في ظلّ الضياع؛ لا يخرجنا من هذه الثنائية أبدًا، ولا يمنحنا هويّة سليمة، ولا يجعلنا أبطالًا، بل يحيلنا إلى صندوق أسودٍ مظلمٍ فيه "بعض" النقاط البيضاء التي لا أثر لها، ونحن لسنا كذلك أبدًا!
أنا أنتمي إلى العاديّ ولا أنتمي إلى الاستثناء، العاديّ بكلّ تفاصيله وتناقضاته وجماله وقبحه، ولا أسعى للبحث عن بطلٍ أنتمي له، أنتمي إلى النّاس الذين يبحثون عن الحياة في كلّ هذا الموت، إلى الذين يضحكون ويبكون ويغضبون ويؤمنون ويكفرون، إلى الذين يخافون أكثر ممّا يدّعون البطولة، إلى الذين يبكون أكثر ممّا يكتمون حزنهم، إلى الذين يصرخون أكثر مما يخجلون ببحّتهم، إلى العاديّين بكلّ عاديّتهم في ظلّ كل هذا الشاذ غير العاديّ الذي يحيط بهم.
اقرأ/ي للكاتب: