30-سبتمبر-2015

حشود في مخيم اليرموك بانتظار المساعدات الإنسانية (Getty)

أحيانًا، أسأل نفسي: كيف لفلسطينَ أن تسامحنا؟ نحنُ السوريّين والفلسطينيّين الذين دخلنا في المؤامرة عليها؛ كيف لها أن تغفرَ جرائمنا بحقّها، وبحقّ أنفسنا؟ نحن الذين دمّرنا ماضينا الوطنيّ لنخونها!

سمّينا أبناءنا بأسماء تشبه حنيننا إلى فلسطين

أذكر أنّنا كنّا نشعل شوارع سوريا ومخيّمات الفلسطينيين فيها مظاهراتٍ في كلّ ذكرى للنكبة، وكنّا نحرق علم دولة الاحتلال في كلّ مظاهرة. مع الانتفاضة انتفضنا، وعند كلّ عدوانٍ كنّا نهزّ الأرض هتافًا وغضبًا، وكنّا مع كلّ شهيدٍ ننزفُ دمعًا وعويلًا أكثر من أمّه، ونشيّعه رمزيًا في المخيّم من الجسر إلى مقبرة الشهداء، ونرفع أعلام فلسطين حتى تختفي ملامح الأرض السوريّة من أسطحِ الأبنية، مئاتُ الآلاف في الشوارع يستطيعُ أيّ أحد في العالم أن يعرفهم من غضبهم، كنّا قنابل غضبٍ تصدح: "عالدوّار يا فدائي عالدوّار" ومشاريعَ مجاذيب بحبّ فلسطين التي لم نرها، نصيح شجاعةً: "عالقدس رايحين، شهداء بالملايين" سمّينا شوارع المخيّم بأسماء مدن فلسطين ورموزها؛ حارة الفدائيّين، شارع حيفا، الجاعونة، صفد، لوبية، عسقلان، مجد الكروم، يافا، عكّا. وسمّينا مدارسنا كذلك؛ الجرمق، القسطل، القدس، يازور، الكرمل، صرفند، وملأنا شوارع المخيّم صور الختيار، وخرائط فلسطين "التاريخيّة" وسمّينا أبناءنا بأسماء تشبه حنيننا وأحلامنا ومدننا التي لا نعرفها. 

حتّى أنّنا ذهبنا في تبنّي القضيّة إلى أقصى ما يمكن، فتبنّيناها بكلّ ما فيها من خير ومن شر، ونقلنا مشاكل الفصائل إلينا، وتصارعنا على شعارات المظاهرات، وتسابقنا على مايكروفونات الهتاف، حتّى نسيَ جميعنا الخاصَّ لحساب العام! وصار على كلّ فلسطينيّ أن يفهم ويناقش في السياسة ويوزّع شهادات حسن انتماء، وأن يتسمّر أمام نشرة الأخبار، ويبكي على مسلسل التغريبة، وأن يكرّر عباراتٍ كثيرةٍ منها "الطريق إلى فلسطين يمر من مخيم اليرموك" وبالمناسبة هذه قبل أن يمرّ بالزبداني بسنوات كثيرة !

بعد كل هذا، دمّرنا كلّ شيء بأيدينا، وأصبحنا خونةً مرتزقة، قالها أبناؤك الذين غرسنا وجوههم في حناجرنا، قالوها صراحة: "أنتم حرفتم البوصلة عن فلسطين، وسرقتم القضيّة، وجعلتم خبر فلسطين في نشرة الأخبار رقم عشرة بعد أن كان الخبر رقم واحد".

نعم يا فلسطين، نعتذر، لقد خنّاكِ، كانَ علينا أن نموتَ بصمت، وأن يبيدنا بشار الأسد مع إخوتنا السوريّين عن بكرة أبينا دون أن نمارس الألم، وكان علينا أن ندير خدّنا الأيسر وقفانا ونبيع كرامتنا لنشتري رضاكِ، قالوها لنا ولم نسمع، ما كان علينا أن ندخل في سباق المظلوميّة هذا، وكان علينا أن نعرف أن القضيّة امتيازٌ لأبنائك الذين تعترفين بهم فقط، أولئك الذين يروننا فلسطينيين من الدرجة الثانية، كان علينا أن نضع كاتم الصوت للبراميل المتفجّرة التي تنزل على رؤوسنا في اليرموك، وللصواريخ التي نزلت على مخيّم درعا والرمل الفلسطيني وخان الشيح والنيرب والعائدين والسبينة، وأن نرفع أرجلنا لأعضاءِ "المقاومة والممانعة" لتغتصبنا، وربّما كان علينا أن نستمتع، وأن نتأقلم مع شكل الزنزانة القوميّة لأنّها خير من زنزانة العدو وإن كانت أشدّ وحشية، وأن نتعامل بمبدأ "ضرب الحبيب زبيب" وأن نعرف أنّنا خونة، منذ أن تجاهل فلسطينيوكِ دماءنا وصارَ مشاعًا، ومنذ أن خرستِ وأدرتِ ظهركِ لنا ونحن نصيح "فلسطيني وسوري واحد".

 لقد خنّاكِ يا فلسطين، كانَ علينا أن نموتَ بصمت، وأن يبيدنا بشار الأسد مع إخوتنا السوريّين عن بكرة أبينا دون أن نمارس الألم

ومنذ أن اتهمنا مثقفوكِ بأننا نبيع بناتنا وأعراضنا، وكان علينا، أن ندفن جوعنا في الأرضِ لكيلا تُخدشَ صورة البطل التي روّجتِها، وأن نقبّل أقدام قاتلنا لكي لا نزعجَ نومَكِ بصراخنا، وأن نأكل أطفالنا كي لا يكونوا خونة مثلنا، نحن لم نجُع يا فلسطين في اليرموك، كنّا نمثّل ونقوم بـ "ريجيم حاد"، قتلانا غبارٌ فامسحيهم من على اسمك، ولا تسمحي لفلسطينيّيكِ أن يخرجوا لينصرونا، يجب أن تظلّي القضيّة المركزيّة الأولى.

نعم يا فلسطين، نحن الآن نجني ثمار خيانتنا، لو أنّنا دعسنا على جثثنا، لو أنّنا فتحنا غرف نومنا لمغتصبينا –أحبابك- وتهافتنا إغواءً، لو أنّنا عشنا سجوننا بهدوء، وقُتِلنا بصمت، ولم نبكِ، ولم نمتْ، ولم نسرق منكِ صورةَ الضحيّة، ولم نسابقكِ على امتياز الوجع، لو أننا أجبنا على سؤال الشبيحة: "فلسطيني وبدّك حريّة يا منيك" بـ "لا"، لما عاقبتِنا وتركتنا!

نحنُ لا نعرفك، نعرفُ صورتَك، وصوتك، ورائحتك، وملامحك التي انكسرت على وجوهنا، لا نعرفك، نعرف فرعك الأمنيّ في سوريا "فرع فلسطين" الذي سمّوه باسمك ليقوموا بمهمّتك فيه، نعرف رائحته وأصوات من فيه، ألوانه، ومساحتهُ الممتدّة من البحر إلى النهر –وكلاهما من دم- ونعرفُ صورةَ القاتلِ التي ترفع في مظاهراتِكِ تصفيقًا له، وألوانَ علمك الذي قتلنا به، وألوان علمه الذي قتلتِنا به، ونعرفُ كثيرًا عنكِ، لكنّنا لا نعرفك، نعرف كثيرًا من الأسماء المنتمية لك، "تحرير، انتفاضة، شعبية، نضال، جبهة، منظّمة، حركة" كلّ هذه الأسماء عاقبتنا، ووقفت على معبر الموتِ وعلّقت رغيف الخبز ورصدته بقنّاصة، كلّها قنصتنا، قصفتنا، قتلتنا، وشربت من دمنا قربانًا لك وتقرّبًا لك بنا، وعقابًا على خيانتنا، خيانتنا التي تتلخّص بكلمة واحدة اسمها "كرامة"، والتي ربّما لا تعني لكِ شيئًا مقارنة بالأسماء السابقة التي قتلتنا، لا تسامحينا، ولا أعرف إن كنّا سنسامحك!