مئة وخمسة عشر عامًا هو عمر معصرة الحاج أحمد عيسى، الكائنة بقرية عارورة شمال غرب مدينة رام الله. أربعة أجيال متتالية من عائلة واحدة تربت على العمل في هذه المعصرة، من جد الجد إلى الحفيد، توارثوا هذه المهنة ليصبح عصر الزيتون بالنسبة لهم بمثابة إرث حضاري وتاريخي، بعيًدا عن كونها مورد اقتصاد أو مشروع تجاري.
بلال أحمد عيسى صالح (ثمانية وأربعون عامًا) أحد أفراد الجيل الرابع في المعصرة الحالية، يترك عمله وعائلته في الولايات المتحدة الأمريكية، ويأتي كل عام، لمشاركة المزارعين فرحتهم بموسم الزيتون، والإشراف على عمل المعصرة التي تخدم أكثر من عشر قرى وبلدات في منطقة رام الله.. "دخلنا مجال عصر الزيتون أبًا عن جد، فأنا وإخوتي استلمنا العمل في المعصرة من والدي البالغ من العمر تسعين عامًا، ووالدي بدوره استلمها من جدي، وجدي استلمها من والد جدي قبل مئة وخمسة عشر عامًا تقريبًا".
ينبش ذاكرته ويتذكر: "كانت حينها المعصرة تسمى بالبد القديم. بنيت عام 1900، وكانت عبارة عن "فرشتين"، صخرتين كبيرتين، يوضع الزيتون بينهما ويقوم عدد من الرجال بتحريك الصخرتين لعصر الزيتون، وهذا "البد" يشبه الى حد كبير "جاروشة" طحن الحبوب. وبعد أعوام قليلة تطور "البد"، وأصبح يحركه الحصان بدلًا من الرجال، حيث وضعت خشبة كبيرة في الوسط يتم وصلها مع جسد الحصان، الذي تشكل حركته الدورانية أداة لعصر الزيتون.
في الخمسينيات من القرن الماضي أدخلت معصرة على شكل "بابور أو ماتور" على الحجار.. و"قمنا بنقلها إلى مبنى أوسع وأحدث، ثم عام 1974 تطورت إلى معصرة "جاروشة" مع كابس، والتي وفرت وقتًا وجهدًا كبيرين، عما سبقها من معصرات".
أول معصرة إلكترونية
وفي عام 1986، استحضرت العائلة أول معصرة إلكترونية للقرية. أشرف على عملها "الوالد" أحمد عيسى، وسميت باسمه، حيث جرى تجديدها عدة مرات بعد ذلك. وكانت معصرة عيسى أول معصرة تحصل على شهادة الأيزو في فلسطين، إضافة إلى حصولها على المرتبة الأولى في مسابقة جودة الزيت التي نفذتها مجموعة إيطالية تهتم بشؤون المزارعين. وحول النتائج الفعلية للتطور في ماكنات عصر الزيتون على مر الزمن، يقول بلال: "من ناحية الجودة، ازدادت جودة الزيت بكل تأكيد، ففي المعاصر القديمة كان الزيتون يرقد وقتًا أطول في انتظار دوره، فيتخمر ويتأكسد لدرجة تشعر أن الزيت قديمًا لم يكن صالحًا للأكل".
أما بالنسبة للأيدي العاملة، فقد وفر وجود المكابس في المعصرة الإلكترونية، عددًا كبيرًا من العمال الذين كانو يجرون الحجارة لعصر الزيتون، ولكن في الوقت ذاته ازداد عدد العمال الذين يخدمون الزبائن، يحضرون الزيتون من البيوت ثم يوزعونه زيتًا مرة أخرى، وهكذا دواليك.. "
ويشير صالح أنه في الأربعينيات والخمسينيات، من القرن الماضي، لم يكن هناك زيتون بهذا الحجم، حيث لم يكن الزيتون الذي زرعوه أجدادنا ناضجًا بعد، فهو يحتاج سنوات عديدة لينضج، تزيد أو تنقص تبعًا لموقع الأرض وخصوبتها"
تفتت الملكية.. تفتت الاحتفالية!
ولعل أكثر ما يتأسف عليه صالح اليوم هو تفتت ملكية الأراضي بين المزارعين، فالأراضي التي ورثها الأبناء عن آبائهم تفتتت بينهم وتقسمت نتيجة لغلاء المعيشة، وهو ما أثر كثيرًا على احتفالية موسم الزيتون.
يقول إن الآباء فيما مضى كانوا يذهبون هم وزوجاتهم وأولادهم، وزوجات أولادهم وأحفادهم، إلى القطاف. عرس فلسطيني من نوع آخر يتم في الجبال وبين الشجرات المباركات. ولكن مظاهر هذه الاحتفالية تقلصت اليوم لتقتصر على أسر نووية صغيرة، لدرجة أن بعض العائلات يذهب فيها الأب وحده لقطاف الزيتون.
ونتيجة هذا التفتت في الملكية، وتوزيع الحصص إلى حصص أصغر فأصغر، أصبح البعض يدفع أجرة عصر زيته للمعصرة، بدلًا من أن تقتطع المعصرة جزءًا من الزيت كأجرة عصره، كما هو متعارف عليه، وذلك خوفًا من أن تقل حصته من الزيت الناتج. ومما تغير أيضًا من ملامح هذه الاحتفالية، عادة "العونة"، حيث كانت العائلات حال انتهائها من قطاف زيتونها تذهب لمساعدة عائلات أخرى، كالجيران والأصدقاء وغيرهم. أما اليوم أصبح الناس يتأجرون عمالًا لمساعدتهم.
يؤكد بلال أن ضرورة المحافظة على هذه الاحتفالية الشعبية هي ما تدفع الناس للذهاب لقطاف أراضيهم، وليس كونها موردًا اقتصاديًا أو غيره، فمجرد أن يتعطل الموظف عن دوامه، أو يغلق رب العمل مصلحته لغرض التفرغ للقطاف هي خسارة مادية، عدا عن كون الأرض تحتاج للكثير من الرعاية والمصاريف إلى حين حلول الموسم. إذن هو إرث حضاري وعائد معنوي، أكثر من كونه ريع مادي وفير.
وينطبق الأمر ذاته حسب بلال على مشروع المعصرة، فتجميد ما يقارب أربعمائة ألف دولار في مشروع لا يشتغل الا شهرًا واحد طيلة السنة، هو خسارة اقتصادية، لا جدوى فيها. لكن إرث كهذا لا يمكن الاستغناء عنه حتى لو لم تخرج المعصرة بتكاليف تشغليها مع نهاية الموسم.
التوقعات تقول أن يكون كيلو الزيتون بـستة وعشرين وثمانية وعشرين شيقل في مناطق شمال الضفة الغربية وأقل من ذلك بقليل في الوسط
وعن المشاكل التي تواجه المزارعين، فيما يتعلق بموسم الزيتون أوضح صالح أنهم عانوا لفترة طويلة من موضوع تكدس زيت الزيتون، في المخازن، نتيجة ضعف التسويق من ناحية، ومنافسة الزيت المستورد من البلدان المجاورة من ناحية أخرى، حيث إنتاج فلسطين سنويًا من الزيت يسد استهلاكها ويزيد، بالتالي فإن أي استيراد من الخارج سيؤدي تلقائيًا إلى تكدسه في البيوت والمخازن.
يضيف شارحًا: قبل فترة قصيرة حدثت ضجة إعلامية كبيرة على موضوع استيراد زيت الزيتون، وانعكاساته على المزارعين، وتمسكهم بأراضيهم، ولا شك أن الإعلام حل جزءًا كبيرًا من المشكلة. ناهيك عن أن تقلب حجم الإنتاج السنوي من الزيت، وتراجع نسبة سيلانه تبعًا لكمية الأمطار، في بعض السنوات، هو مشكلة حقيقية.
الحال الآن أن حجم الإنتاج غير ثابت. مثلًا يحتمل أن يقل حجم الإنتاج هذه السنة حوالي من عشرة إلى خمس عشرة بالمائة عن العام الماضي، حيث وصلت نسبة الزيت العام الماضي أكثر من أربعين بالمائة من حبة الزيتون، أما هذه السنة فلن تتجاوز خمس وعشرين بالمائة.
اقرأ/ي أيضًا: عندما يحلو الفلافل في عين الأباطرة
الطرد المركزي
حسب صالح، حبة الزيتون تتكون من "قشرة ولب وعظمة"، والزيت يوجد في الخلايا الموجودة في "لب الحبة"، وهذه الخلايا يختلف إدرارها للزيت، حسب نسبة الأمطار التي تتشربها.
الطبيعي في ثمرة الزيتون أن يكون ثلثها من زيت، وثلثيها، "قشرة وعظمة"، ولكن نسبة السيلان تقل في بعض الأحيان نتيجة لقلة المياه. وعادة ما يتم فصل الزيت عن باقي محتويات حبة الزيتون، من خلال عملية الطرد المركزي، التي تقوم بها المعصرة، والتي بدورها تنتج ثلاث مكونات، "زيت، جفت، زبار." حيث يتم تعبئة الزيت في عبوات، والجفت في أكياس ليستفيد منه المزارعون في تسميد التربة، ووقود للطاقة، أما الزبار فلم يستطع المزارعون إيجاد استخدام له حتى الآن، حيث أصبح يشكل مشكلة بيئية يستعصي حلها.
يذكر أن سعر الزيت في فلسطين لم يتضح بعد، ولكن التوقعات تقول أن يكون بين ستة وعشرين وثمانية وعشرين شيقل للكيلو في مناطق الشمال، وأقل من ذلك بقليل في الوسط، في حين يرتفع سعره إلى ما فوق ثمانية وعشرين شيقل في الجنوب، نظرًا لقلة الأراضي المزروعة بالزيتون لديهم.
اقرأ/ي أيضًا: الثروة السمكية في مصر إلى زوال