بعرض افتتاحيّ لفيلم "واجب"، انطلقت فعّاليات "أيام سينمائية" في قصر رام الله الثقافي، وهو الفيلم الذي رشّحته وزارة الثقافة ليمثّل فلسطين عن فئة أفضل فيلم بلغة أجنبيّة لجوائز الأوسكار 2018.
وفيلم "واجب" هو الفيلم العربيّ الوحيد بين الأفلام المتنافسة على جائزة مسابقة مهرجان لندن السينمائي في دورته الـ61، والجارية فعاليّاتها هذا الأسبوع، وهو الثالث للمخرجة الفلسطينيّة آن ماري جاسر، بعد أفلامها "ملح هذا البحر" 2008، و"لما شفتك" 2012 ، إضافة لعدد من أفلامها القصيرة، وأشهرها "كأننا عشرون مستحيلًا".
يعكس فيلم "واجب" صراعًا بين جيلين يختلفان في كل شيء تقريبًا، وذلك في إطار الكوميديا السوداء
تدور أحداث الفيلم خلال يوم واحد في مدينة الناصرة بالداخل الفلسطينيّ المحتل، بين شخصيّة الأب (أبو شادي)، ويمثلها محمد بكري، وبين الابن (شادي)، ويمثّل شخصيته صالح بكري، حيث يقضيان معظم يومهما في رحلة توزيع دعوات حفل زفاف الابنة آمال التي تمثّل شخصيّتها ماريا زريق.
يكشف الحوار بين الشاب المهندس القادم من إيطاليا للمساعدة في التحضير لعرس شقيقته، ووالده، الكثير عن أفكار الشخصيتين وعن تاريخ العائلة، ويعكس صراعًا بين جيلين يختلفان في كل شيء تقريبًا، وذلك في إطار الكوميديا السوداء.
وهُنا نلاحظ تناقضًا بين أفكار وسلوك الشخصيّات، فشادي صاحب الأفكار المثالية، يفضّل الحياة في الخارج دون بذل مجهود للتغيير، في حين أن الوالد المرن مع المجتمع ومع وجود الاحتلال، يتمسك بالوجود في الداخل.
اقرأ/ي أيضًا: رقصة الفالس بين شاتيلا وأوشفيتز
يتميّز الفيلم بحوار رشيق يظهر من خلال جدالات متتالية بين شادي القادم من غربته بأفكار عصرية ومثالية، معبّرًا عن رفضه للممارسات الاجتماعية بمدينته ابتداءً من تراكم النفايات في الشوارع وحتى العلاقة مع المحتل. وأبو شادي المتمسّك بمدينته وتقاليدها، وبالطبع ينتقد الأب باستمرار خروج ابنه عن "المتعارف عليه" في مظهره، وعلاقته بفتاة خارج إطار الزواج.
تواتر أحداث الفيلم لتصل إلى خلاف بين البطلين، في مشهد يصمّم فيه "أبو شادي" على إيصال دعوة العرس إلى "روني آفي" وهو موظّف حكومي يسعى الأب من خلال استرضائه للحصول على ترقيّة من وظيفة معلم لمدير مدرسة. لكنّ شادي يرفض الفكرة، على اعتبار أنّ "روني" عميل لجهاز "الشاباك"، ويعمل ضدّ فلسطينييّ الداخل، ويسعى لتهجيرهم.
هذا المشهد يصوّر التضارب بين براغماتية الأب، الشبيهة ببراغماتية "متشائل" إيميل حبيبي، في الرغبة باستمرار الحياة بشكل لائق رغم وجود الاحتلال. ومثاليّة الابن بعدم اعتياده على وجود الاحتلال رغم أنّه ولد بوجوده. هذا ما يعكسه مشهد آخر يستغرب فيه شادي وينزعج من وجود جنود إسرائيليين بالزيّ العسكري على طاولة مجاورة في مطعم شعبي بالناصرة.
اقرأ/ي أيضًا: "خارج الإطار".. حكاية شعب في بحثه عن صورته
الفيلم يتطرّق أيضًا إلى تلك الصلة القويّة بين الجيل الشاب من فلسطينيي الداخل المحتل، مع نظرائهم من الضفة الغربية، من خلال مقترح شادي، بإحضار فرقة غناء من رام الله لإحياء حفل الزفاف، بدل "مطرب العائلة" المزعج برأيه.
وظفت مخرجة الفيلم "آن ماري جاسر" الحوار الكوميدي أفضل توظيف، كونها كاتبة السيناريو أيضًا، لتعكس من خلاله الأبعاد السياسية والاجتماعية لواقع الحياة في الناصرة، مبتعدة عن الشعارات والرسائل المباشرة. فعندما صدم أبو شادي كلبًا بسيارته، ظهرت عليه علامات الرعب حتى ظننا أنّه صدم إنسانًا، ثم هرب مسرعًا بسيارته، موضحًا لابنه: "إنت بتعرفش شو يعني تدعس حيوان بهالبلد، وكلب إسرائيلي كمان؟".
ويحمل اسم الفيلم أكثر من فكرة، فالمعنى الظاهر هو "واجب" أو ضرورة دعوة الأقارب والأصدقاء بشكل شخصي لحضور الزفاف، الأمر الذي يحرص عليه أبو شادي ضمن سعيه لإرضاء المجتمع، والذي عكسه الفيلم أكثر من مرة. فأبو شادي يكذب على الأقارب لإرضائهم.
و"الواجب" الآخر الذي أظهرته أحداث الفيلم، يأتي بمعنى المسؤولية التي حملها "أبو شادي" بتربية أبنائه، والبقاء في مدينته وتحمّل كلّ الأعباء، مقابل طريق الهروب الذي اختارته الزوجة بهروبها مع عشيقها للعيش في الخارج.
تقول المخرجة بأن الفيلم لا رسالة له وأن هدفه عكس واقع الحياة لا أكثر. وهذا ما أظهره مشهد النهاية الذي لم يقدم حلولًا أو خلاصات
ورغم غضب "أبو شادي" من زوجته، إلّا أن المخرجة تظهره في أكثر من مشهد يخفي حنينًا إلى الزوجة الخائنة، متحججًا بضرورة وجودها لمساعدته في مراس الزفاف، الذي حُدد خصيصًا ليناسب مواعيدها. وهذا جزء من الشخصية الغنية بالتناقضات التي قدّمها محمد بكري بكل احترافية.
في مشهد آخر يُظهر تناقضات الشخصيّة، يُجبر شادي والده على الحديث على الهاتف مع والد صديقته وهو قيادي في منظمة التحرير، فيكذب "أبو شادي" وينقل له صورة فلسطين بشكلها الرومانسي كما هي في مخيّلة اللاجئ بشجر برتقالها وبحرها. ورغم أن "أبو شادي" في مشهد سابق كان قد شكك بوطنية الرجل لكنّه في هذه اللحظة ربما تعاطف مع إنسان محروم من وطنه.
مخرجة الفيلم نجحت في وضع المشاهد في صورة نابضة بالحياة لأحياء الناصرة وأزقّتها، إضافة إلى جلساتها الاجتماعية ولهجتها وأساليب المجاملة والنفاق الاجتماعي أحيانًا. كما استطاعت أن توظّف علاقة الأب والابن بين ممثليها بشكل أنتج مشاهد عفوية مقنعة بعيدة عن التصنع.
تجيب مخرجة الفيلم في مقابلة تلفزيونية على سؤال "ما هي رسالة الفيلم؟" بأنّ الفيلم لا رسالة له، وأن هدفه هو عكس واقع الحياة لا أكثر. وهذا ما عكسه مشهد النهاية، شادي ووالده يدخنان السجائر على الشرفة، دون تقديم حلول أو خلاصات.
وجاسر هي مخرجة فلسطينية من مدينة بيت لحم، حصلت على جوائز عربية وعالمية، كتبت وأخرجت نحو 14 فيلمًا، صُنفت ضمن أقوى مئة مرأة عربية حسب مجلة اريبيان بزنس. وكان أوّل أعمالها الروائية الطويلة فيلم "ملح هذا البحر".
ويُشارك نحو 65 فيلمًا محليًا وعربيًا ودوليًا في فعاليّات "أيام سينمائية" التي انطلقت في خمس مدن فلسطينية بنسختها الرابعة، وبحضور سينمائيين عرب وعالميين، حيث تستمرّ الفعاليات إلى 23 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، بهدف إعادة إحياء وتنشيط صناعة الأفلام.
وتشمل الأفلام المشاركة 20 فيلـمًا طويلًا، و24 فيلـمًا قصيرًا، ومجموعة من الأفلام المتحركة للأطفال. ويتنافس على جوائز المهرجان 14 فيلمًا، خمسة ضمن فئة الأفلام الوثائقية، وتسعة ضمن فئة الأفلام القصيرة.
اقرأ/ي أيضًا:
دير "كريمزان".. البداية من "نبيذ الصلاة"