عندما ينتهي عملي الساعة التاسعة مساء تبدأ رحلتي مع السؤال السخيف: هل سأصل البيت؟! أعيش في قرية هادئة تبعد عن رام الله ثلاثين كيلو مترًا، بعد بيرزيت أي بعد تجاوز حاجز عطارة ننعطف يسارًا. نمشي قليلًا ثم نمرُّ عن مستوطنة عطيرت المقامة على أراضي قرية عطارة وغيرها من القرى المجاورة، نتجاوز مفترق المستوطنة التي تعلو الشارع، نمشي قليلًا حتى نصل مدرسة دينية مقابل حرش أم صفا، وهو حرش جميل إلا أنه خال من الزائرين.
الطريق في الليل موحش، وإن كان مضاءً، فعتمة الموت كفيلة بإزاحة ضوء الشمس، فكيف بأضواء الشارع؟
أمتار قليلة حتى نجد في وجوهنا مبنى الإدارة المدنية القديم، في مستوطنة حلميش، أو الـ "نبي تسوف"، أو إذا شئت مستوطنة النبي صالح، وهي مستوطنة تضم داخلها مجموعة كبيرة من المستوطنين المتدينين المتطرفين. على غرار الكتابة السينمائية لو قلنا "فلاش باك" سأعود إلى عام 1991، كنا أنا وصديقي نجلس في القرية على الشارع الرئيس، وكان هذا الشارع يمر منه الصالح والطالح، الفلسطيني واليهودي، شارع عام، فكل من يريد الوصول إلى فلسطين 48 يمر من قريتنا.
كنا جالسيْن، فلمحنا سيارة تحمل لوحة تسجيل صفراء اللون، كانت سيارة إسرائيلية، ولما وصلت السيارة قربنا توقف المستوطن وأخرج بندقية من شباك السيارة صائحًا فينا بعربية مكسرة: "اللي بضرب حجر بدي أنــ...ـه!!"، ثم مشى، كانت وقتها انتفاضة الحجارة تلفظ أنفاسها الأخيرة، وكانت قريتنا قدمت شهيدين في بداية الانتفاضة في شهر شباط عام 1988، حيث استشهد رائد وأحمد برصاص مستوطنين كانوا قد اقتحموا القرية بصحبة أعداد كبيرة من جنود الاحتلال، قريتنا لم تكن تنام، بسبب الشارع الرئيس والحجارة التي تمطر سيارات المستوطنين في ذلك الوقت.
كان ذلك المستوطن من مستوطنة حلميش، التي يقف المستوطنون كل ليلة هذه الأيام يرشقون السيارات الفلسطينية بالحجارة، سائق التاكسي الذي يعيدنا إلى القرية، نحن العاملين في الليل، والمقطوعين من القرى المجاورة، هو حبل نجاتنا، حيث مذ بدأت الهبة، صرت أركن سيارتي في البيت، فلم أعد أجرؤ على الذهاب والمجيء بها وحيدًا في الليل، كما يقولون: الموت مع الجماعة رحمة. فالطريق في الليل موحش، وإن كان مضاءً، فعتمة الموت كفيلة بإزاحة ضوء الشمس، فكيف بأضواء الشارع! إذاً أرواحنا -نحن الذين نختلط بالمستوطنين ويشاركوننا الشوارع أو يحتلونها- أرواحنا على كفّ عفريت.
المسألة ليست مسألة بسيطة، الكتابة عنها بسيطة جدًا، تصف وترتب مجموعة من الكلمات والجمل لتكتب عنها، ولكن كيف ستصفُّ وترتب كل جثث الشهداء في جملة واحدة!
"كانت عائدةً من قطف زيتونها فدهسها مستوطن"، "كان مارًا فأطلق عليه الجنود النار وصاحوا: إرهابي".. هذه ليست عناوين صحفية، ولا تصلح أن تكون كذلك. هذه جمل ليست للبيع، ليست للتجارة الالكترونية الصحفية، ليست لتجميع زيارات إلى مواقعكم الالكترونية، إنها جمل لزيارة وطن لم نعرفه، وطن يتيح لي في التاسعة مساء أن أركب سيارتي، أشغل الراديو أو الـ أم بي 3 على أم كلثوم، أشعل سيجارة وأقود عائدًا إلى البيت أفكر بحبيبة، بقصيدة. لا أن أفكر بالموت، وقلب أمي الذي يرجف حتى أطق مفتاح البيت فأسمع الدم وهو يعود إلى شرايينها بحرية.
اقرأ/ للكاتب: