يحيي الفلسطينيون في 15 أيار/مايو من كل عام ذكرى النكبة التي حلت عليهم عام 1948، ككارثة بشرية لم يُشهد له مثيل، إذ جاءت عصابات بلا أوطان، لتشرد شعبًا بين المخيمات وتسرق وطنًا من جذور الآباء، فيصبح من كان مواطنًا لاجئًا، ومن كان عزيزَ قومٍ يُذلّ بين المعاناة والمآسي.
لم يورث الأجداد الفلسطينيون لأحفادهم، لا مالًا ولا ذهبًا، بل أورثوهم حصصًا متساوية من مرارة "النكبة"
ترك الفلسطينيون بيتوهم في الداخل وهُجّروا من أراضيهم قسرًا. هذه هي المأساة التى تتوارثها الأجيال، جيلًا بعد جيلًا، لم يورث لهم الأجداد لا مالًا ولا ذهبًا، بل أورثوهم حصصًا متساوية من مرارة "النكبة".
اقرأ/ي أيضًا: لماذا حدث ما حدث؟
مين أين جاء مصطلح "النكبة" ومن أول من استخدمه؟ وهل يتطابق مع الحالة الفلسطينية إبان حرب عام 1948؟ أم أنه يشمل كل ما جرى منذ ذلك التاريخ؟ الغريب حقًا أن الفلسطينيين يحييون ذكرى نكبنهم كل عام وتنتهي، وكأنها نقطة النهاية، وكأن الأمر مجرد احتفال.
يعود المطلح إلى الحادثة الشهيرة التي حدثت في عهد الخليفة العباسي هارون الرشيد، تحديدًا ما وقع للبرامكة على يده من قتل وتشريد ومصادرة أموال. كان هؤلاء وزراء الدولة وأصحاب الأمر والسلطان، حتى مال بهم الزمن وأطاح بهم الرشيد، وسمي ما جرى لهم في التاريخ بـ"نكبة البرامكة".
النكبة هي: مصيبة مؤلمة توجِع الإنسانَ بما يعزُّ عليه من مالٍ أو حميمٍ، وفي الواقع الفلسطيني هي مصطلح يبحث في المأساة الإنسانية المتعلقة بتشريد عدد كبير من الشعب الفلسطيني خارج دياره. كان الشاعر المصري أحمد محرّم من أوائل من أطلقوا اسم النكبة في كتاباتهم، ففي عام 1933، أي قبل حدوث نكبة فلسطين بخمسة عشر عامًا، نشرتْ صحيفة "البلاغ" المصرية قصيدة طويلة للشاعر المصري أحمد محرم بعنوان "نكبة فلسطين"، وتكاد تكون القصيدة الشعرية الأولى التي حملت هذا المصطلح، وهي تبكي وجع فلسطين، وتستحثّ همم العرب على نصرتها.
لا تتمثل النكبة فقط في تشريد وتقتيل الشعب الفلسطيني، لكن في إقامة الكيان الصهيوني
والنكبة أيضًا لا تتمثل فقط في تشريد وتقتيل الشعب الفلسطيني، لكن في إقامة دولة إسرائيل، كما وضح عالم التاريخ والمفكر القومي قسطنطين زريق (1919-2000) المستخدم الثاني للمصطلح في كتابه "معنى النكبة"، وهو أول من وصف تطورات الحرب بالنكبة.
اقرأ/ي أيضًا: رحيل سلمان الناطور.. النكبة من منظورها الشخصي
بالنسبة لزريق، كانت الحرب على الفلسطينيين نكبة منذ اللحظة الأولى، من ناحية نتائجها الكارثية على المشروع القومي والوحدة العربية، والتحرر والتخلص من الاستعمار، ففلسطين جزء من الأمة العربية التي كان العرب يحلمون بها. ورغم أن تصور زريق لعام 1948 كنكبة يتضمن بالتأكيد تهجير سكان فلسطين، فإن هذا لم يكن اهتمام زريق الأساسي، لكنه كان جزءًا فقط من الأشياء التي جعلت من تأسيس دولة إسرائيل على أرض فلسطين أمرًا كارثيًا.
كما استخدم المصطلح الكاتب والمؤرخ الفلسطيني عارف العارف (1891-1973) في كتابه "نكبة فلسطين والفردوس المفقود"، والذي رأى فيه أن النكبة بدأت منذ اليوم الذي صدر فيه قرار التقسيم 29 تشرين الثاني/نوفمبر 1947، إلى اليوم الذي انتهى فيه الانتداب البريطاني وانسحاب الجيش البريطاني من البلاد وحلت الكارثة.
في 1948، اجتمعت الجيوش العربية لدخول فلسطين بعد إعلان بريطانية إنهاء انتدابها لفلسطين، والسماح لدخول العصابات الصهيونية مثل البلماخ والإرجون والهاجاناه والشتيرن إلى فلسطين. هذه إحدى العوامل التي أدت لنشوب الحرب بين الجيوش العربية المتمثلة بالمملكة المصرية ومملكة الأردن ومملكة العراقية وسوريا ولبنان والمملكة العربية السعودية وفرق المقاومة الفلسطينية. وضعت الحرب أوزارها بعد أحد عشر شهرًا من القتال لتنتهي بهزيمة الجيوش العربية وبكارثة إنسانية وقعت على كاهل الفلسطينيين، وهي خذلان العرب لهم وضياع فلسطين، فأكثر من 77% من فلسطين أصبحت بيد العصابات الصهيونية، وجرى تشريد السكان الأصليين في المخيمات، فأطلق الفلسطينيون على ما حل بهم نكبة الشعب المنكوب كتشبيه بالكوارث الطبيعية من زلازل وبراكين.
النكبة هي الهزيمة وما تنتج عنها، أما اعتبار النكبة مرحلة تاريخية، أو محددًا زمنيًّا لما حصل بعد تاريخ 15/5/1948، لا تعد إلا محاولة تحايل عربي وهروب من المسؤولية، بل إنكار لهزيمة الحرب أمام العصابات وتبرير الفعلة الصهيونية، والتخلي عن المسؤولية العربية تجاه هذا القضية بجعل الشعب منكوب يواجه بنفس العصابات البربرية.
سوف تنتهي النكبة إذا اتحد الصف الفلسطيني أمام دماء الشهداء وتضحيات الأسرى والجرحى
الكاتب عدلي صادق الذي نقد تسمية النكبة في مقال له بعنوان "نقد تسمية النكبة"، قال: يختزل الانتكاب التوصيف الشامل لحجم الأذى الذي وقع على الشعب الفلسطيني. لكن، في تسمية حجم الأذى بـ"النكبة"، تجهيل لفاعلين معلومين، وكأنها من صنف الأعاصير التي لا يُشتكى صانعوها، ولا يلاحَقون.
اقرأ/ي أيضًا: اعتذارفلسطيني عاجل إلى الشعب السوري
والهجوم الصهيوني على فلسطين عام 1948 حرب بين الجيوش والعصابات، انتهت بكارثة سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية للمنطقة جمعاء. هي حرب لها فاعلوها ومفتعلوها، وفيها منهزمون ومنتصرون ومجرمون، ليست نكبة حدثت بين ليلة وضحاها، بل سبقها حرب وتخطيط وتاريخ طويل.
يحيي الفلسطينيون نكبتهم في كل عام، ثم ينتهي الأمر. هناك من يأخذ طريق البحث عن الاستقلال بعيدًا عن التحرير، وهناك من يعيش مرحلة ما بعد التحرير، ففي الوقت الراهن الجميع يبحث عن السلطة، فعاليات إحياء ذكرى النكبة ما هي إلا تذكير للأجيال بما حل بنا عام 1948 من مآس ومعاناة، يجب أن تكون بداية تتجدد مع كل ذكرى.
اليوم مر على ذكرى نكبتنا 68 عامًا ونحن فيها تائهون، نبحث عن الطريق والطريق أمامنا، لا نريد فعاليات موسمية فقط، فالجميع، صغارًا وكبارًا، شبابًا وشيوخًا، تربوا على رائحة البلد التي هاجر منها أجدادهم، لم ينس الصغار كما قالت جولدا مائير، ولم ينجح وعد بلفور بقيام دولة بل أقيم كيان، سينتهي إذا اتحد الصف الفلسطيني أمام دماء الشهداء وتضحيات الأسرى والجرحى، وهي طريقنا لتحرير أراضينا بعيدًا عن المصالح الشخصية الضيقة. نريد في هذا اليوم أن نقف مثلما يفعل أعداؤنا ونحن أحق بما يزعمون، لأننا الحقيقة.
اقرأ/ي أيضًا: