03-مايو-2024
حرب غزة.. أكثر من نصف عام!

لوحة: سهاد الخطيب

اليوم العاشر بعد المئتين ونحن نتمنّى أن تتوقّف حرب الإبادة كما توقفت عجلة الحياة وعصبها وشريانها في وقت قياسي تجردت فيه من ملامحها الطبيعية وتفاصيلها المعتادة.

أكثر من نصف عام ونحن في شتات، يحفُّنا الرعب ويصيبنا الفقد والنقص، ويغشانا القهر، نطبخ على نار قلوبنا المحروقة من هول الإبادة وبشاعة أساليب التدمير والحرمان

أكثر من نصف عام وحياتنا محصورة في حقيبةٍ اختصرت أهمية الأشياء وقننتها أمام قدرتها على الاحتواء وعافيتنا في إمكانية الهروب.

أكثر من نصف عام ونحن نراقب أيامنا تُهدر أمام نزف أحلامنا ودوّامة أفكارنا وهشاشة أرواحنا التي أزهقتها فاشية الاحتلال.

أكثر من نصف عام ونحن ندفن الشهداء بلا وداع، ونصلي بلا أذان، نعاني الصدمة حتى من النجاة التي ما زالت أقصى الأمنيات.

أكثر من نصف عام من مواجهة أمعائنا للخواء في ظل المجاعة التي صار فيها الخبز حلمًا، والفاكهة خيال.

أكثر من نصف عامٍ بلا طاقة ولا نور سوى إيمان بعض القلوب، أصاب أجسادنا وباء "قلة الاستحمام" مع اختلاف الأعراض، يخنقنا طوق الحصار، ويقتلنا عموم الفقر، وغياب التعليم، وقرب الموت، وخذلان ذوي القربى، وتكالب الغرباء.

أكثر من نصف عام صار فيه جلب الماء غاية صباحية، ورحلة يومية مفادها سدُّ الحاجة بالاكتفاء المتجرد من معناه، ننقل الماء العذب على مقعد أحدنا المتحرّك في الوقت الذي فاقم العدوان من إعاقته، وهتك عافية الأصحاء، نمضي وقتنا في إحماء النار، والانتظار في طوابير المياه، نفتش عن مختص لإسعاف إصابة أحدنا قبل أن يصيب جرحه الهلاك، نراقب انتشار الأوبئة ووقوع الكوارث بلا حيلة.

أكثر من نصف عام ونحن نتجرّد من أناقتنا لنجمع الحطب المحفوف بخطر النفاد من الطرقات وعلى جوانب البيوت المهدومة، نشعل أثاث بيوتنا كي نتمكن من طهي ما يسند قوانا المتهالكة أمام أزماتنا المتتابعة.

أكثر من نصف عام وقد تغيّرت الأحوال، واختلف الطقس، وتقلّبت الفصول، الحوامل وضعن، والرضع فُطمن، والمفطوم حبا، والحابي مشى، والماشي كبر، والكبير مقتول من رعب المشاهد، وثقل المسؤولية التي تجاوزت حدود التوقع، وتخطّت مراسم المستقبل.

أكثر من نصف عام ونحن نواجه شمولية الخسارة، للسكن والمال والولد والعمل في ظل تراجع قدرتنا على استيعاب المزيد من الفقد

أكثر من نصف عام على تحوّل أراضينا لمقابر ونحن نتحسس البدائل لإكرام الميت، واحتضان النازح، نتقاسم الدفء ونتشاطر التعب بصمت الصامدين رغم الكبت والقهر وفي حديث عيوننا المتناظرة ألف استفسار وحديث وسؤال.

أكثر من نصف عام باتت فيه الأخبار العاجلة أهون في وقعها من العالقة لا سيما إن تعلّق الأمر بالأرواح.

أكثر من نصف عام على توقّف الحاضر وتناثر مفردات المستقبل بعد إعدام الاحتلال للماضي.

أكثر من نصف عام وقد تشابهت الأيام التي لم نعد نتذكر أسماءها، ولا نلتفت لترتيبها للحدِّ الذي لا نميز فيه عيدنا الأسبوعي، وكثيرًا ما يتوقف الوقت حين تتشابه السويعات في لحظات تختفي فيها

 كل مصادر الطاقة عن الساعة الوحيدة المتبقية في يد أحدنا.

أكثر من نصف عام والمرضى بلا علاج، والجرحى رهن السرائر والتحويلات العالقة، وقرارات البتر، وخيار تفاقم الإصابة أمام تبني الاحتلال لسياسة الإهمال الطبي.

أكثر من نصف عام ونحن نأكل بلا تذوق، نتعذب بالصوت، نتقابل بلهفة الوداع ونسأل أنفسنا مرارًا هل حقًا ما زلنا أحياء؟! ثمّ نُقتل بكل الوسائل جوعًا، ذبحًا، قهرًا، إهمالًا، وحصارًا.

أكثر من نصف عام ونحن نُمسي مجتمعين ويفرّقنا صباح الأعداء، ننام على صوت القصف، ونستيقظ على مشاهد الدمار وصعقة الغدر التي لم يسلم منها حتى أطفال الأنابيب.

أكثر من نصف عام على تغيّر ملامحنا التي شاخت رغم ريعانها، فلقد أصابنا هاجس القلق الذي توزع بين مفترقات الشمال والجنوب؛ ليزيد من وقع الخوف والحيرة أمام الشتات الذي اجتمع على الأرواح والأجساد معًا.

أكثر من نصف عام ونحن نغفو بخوفٍ أمام سطوة النعاس، نستيقظ على حمد الناجين، محرومون من حرية العبادة، نتمنى العودة لحياتنا الطبيعية، لأيامنا تمر من غير دماء، لليالٍ هادئة.

أكثر من نصف عام وقد تجرّد فيه رمضان من صوت الأذان وصلاة التراويح والأنوار، ليأتي العيد بغصةٍ بلا ملامح أو شعائر.

أكثر من نصف عام وقد ذبحنا غلاء الأسعار وانعدام قدرتنا على الشراء بعد رحلة تسوّق نبحث فيها عن الحد الأدنى من متطلبات الحياة الأساسية.

أكثر من نصف عام على تعطّل عجلة الطبيعة، حين أذاب الاحتلال المباني، وأتلف التربة، وحوّل البشر إلى مجموعة أشلاء، ليحجب الشمس عن أحلام أبناء غزة، عن براءتهم وخطواتهم ومسيراتهم؛ كي تظل في ظلام دامس.

أكثر من نصف عام غادر فيه الوافدون، كما وصل المسافرون في الوقت الذي وُلد فيه المئات ومات فيه آلاف.

أكثر من نصف عام غابت فيه قدرتنا على استنشاق نسيم بحر متنفسنا الوحيد.

أكثر من نصف عام على صلتنا المعلقة، وأخبارنا العالقة، نقف على أطراف البلاد نراقب الخذلان، نجلس أمام جامعتنا بلا تعليم بعدما احتضنت النازحين.

أكثر من نصف عام والطرقات تشهد على ولادة النساء، وقتل الخدج بلا ذنب.

أكثر من نصف عام وقد اقشعرت أبداننا من هول المصاب بينما تجرّنا إنسانيتنا لأداء الواجب ولو بالشكل البدائي إلى أن يعزنا الله بنصر وفرج مغموسين بعظمة العوض واتّساع الفرح.