يقال إن المعتقدات والأساطير هي ابنة الأرض وتسكن فيها، ذلك أن التراث والتراب مُرتبطٌ أحدهما بالآخر. وفي حالة الحديث عن التراث الفلسطيني، فإننا سنجده لا يخلو من أساطير وحكاياتٍ عن كل ما يدب على هذه الأرض، أو ينبت من ترابها، حيًا كان أو جمادًا.
وحتى "شيخ الدواجن" الديك وجد له ولـ"حريمه" الدجاجات مكانًا واسعًا في هذا التراث، ربما ساهم في إثرائها اقتناء الفلسطينيين للديوك والدجاج على نطاق واسعٍ في منازلهم، وقدرتها على الاستقرار والترحال، وتأقلمها في الجبل والسهل والغور.
الديك والدجاجة في المعتقدات الشعبية
يقارن الموروث الشعبي بين الدجاجة والديك من جهة، والرجل والمرأة من جهةٍ أخرى. فالديك هو رمز الخصوبة والذكورية، ووجوده في البيت مهمٌ كوجود الرجل، "لأنه يُشعر النسوة بالأمان، حيث حركته وضجيجه تكسران الهدوء في حال غياب الرجال خارج البيت"، ولذا سَمّوا الديك أبو قاسم، وأبو علي، كما في الأمثال الشعبية.
يُسمى الديك في الأمثال أبو قاسم وأبو علي، ويوصف بأنه ذو حسٍ أمنيٍ مُرتفع، إذ ينذر بوجود الغرباء واللصوص والزوار
أما الدجاجة فهي محور القن، ودورة حياة الدجاج مُرتبطة بنشاطها، فهي من ترقد على بيضها حتى يفقس، وهي من تتولى تعليم فراخها "نقر الحب"، ويبقى صغارها حولها وتجمعهم بصوتها، الأمر الذي يربطوه بالأم التي تتحمل مسؤولية أطفالها من حملهم وإرضاعهم وتربيتهم في ظل انشغال الأب، وهي من يجمع العائلة "ريحة الأم بتلم"، وتتولى الأم رعاية كل أبنائها "وما بتدشر (تترك) وراها (خلفها) ولا صوص".
اقرأ/ي أيضًا: رحلة شتوية في تراث فلسطين
"وصياح الديك يطرد الشياطين ويجلب الفأل الحسن". كما أن هناك علاقة بين صياح الديك والأحوال الجوية، إذ يُعتقد أن صياحه بعد المطر يخبر بقرب طلوع الشمس، في حين أن توقفه عن الصياح نذير شؤم. كما أن صياح الدجاجة بصوتٍ مرتفعٍ كصوت الديك نذير شرٍ قد يصيب أهل البيت، ولذا يتم إسكاتها وتخويفها بالسكين، وإن لم تسكت ذُبحت قبل وقوع شرها. ثم إن الدجاجة السوداء أفضل ما يُقدم للمرعوب والخائف.
وفي حالات الولادة فإنهم يذبحون للمرأة النفساء ديكًا، وفي اليوم الثالث للولادة يذبحون للمرأة إذا أنجبت بنتًا ديكًا، وإذا أنجت ولدًا دجاجة، أي بعكس جنس المولود، وهذا من فألهم بزواج المولود عندما يكبر.
أما إذا باضت الدجاجة في "حوش" الجيران (ساحة منزلهم)، فإن بيضتها بشارة خيرٍ بقرب قدوم مولودٍ لهم، ولذا يُحتفظ بهذه البشارة. كما أن رؤية الديك في المنام أيضًا بشرى بمولودٍ ذكر.
وهناك علاقةٌ قويةٌ بين الدجاج وأساطير الذهب والكنوز المرصودة، وقصص الدجاجة الذهبية وصيصانها مشهورةٌ تكاد لا تحصى خُرافاتها. هذا ولا تغيب الدجاجة عن السحر والشعوذة، وكان بعضهم يعمد لذبح دجاجةٍ ورميها عند "الصخور المسكونة".
الديك المؤذن
يُنظر للديك على أنه ميقاتي الأذان، وأن لصيحاته الأربعة الأساسية مواعيد ثابتة، وصوته يسمى صياحًا، ويقولون في أغاني شحدة المطر:
شـــو بده صــيّاح اللـيـل .. بدّه مــطر بدّه ســــيل
أطلب من ربك يا ديك .. اطلب من ربك يسقيك
وصيحات الديك الأربع، هي:
صيحة الديك: وهي صيحة أذان الفجر وانبلاج الصبح، وفي المثل "بفيق قبل صيحة الديك".
صيحة ديك "الحردانة": وهي قبل مغيب الشمس بخمس ساعات، و"الحردانة" هي التي تغادر بيت زوجها لبيت أهلها بعد خلافٍ مع زوجها.
صيحة ديك "الحوامة": وتكون عند الساعة 11 ليلاً، و"الحوامة" هي التي تسهر خارج بيتها عند أهلها وجيرانها فينذرها الديك بالعودة.
صيحة ديك "الفرارة": وهي عند منتصف الليل، وتنبه المرأة "كثيرة الفر" أي التي تكثر من الزيارة والتنقل، والتي تتأخر في السهر خارج البيت بأن الوقت تأخر كثيرًا.
يُكره ذبح الديك، حسب الاعتقاد الشعبي، ويُقال إن للديك أربع مواقيت للأذان في مواعيد محددة
ولأن الديك مؤذنٌ فإنه يُكره ذبحه إلا اضطرارًا، وأحيانا يكون في البيت/الحوش أكثر من ديكٍ، ويكون أحدهم الميقاتي الأساسي والبقية تتبع له، ومثل هذا الديك يكره الناس ذبحه.
الديك في المثل الشعبي
يعكس المثل الشعبي خبايا البيئة ويصف ناسها وما يتصل بهم، فلا عجب إذن أن تكون الحيوانات والطيور من مكونات هذه الأمثال، خاصة تلك الموجودة في محيط الإنسان وتعيش في بيئته. وقد ذُكر الديك والدجاجة في أمثالٍ كثيرةٍ نورد بعضًا منها:
- الديك الفصيح من البيضة يصيح: ويضرب المثل بمن تظهر عليه علامات الذكاء من الصغر.
- مثل بيضة الديك: يضرب المثل بما يحدث مرة واحدة ولا يتكرر أبد الدهر، وقد زعموا أن الديك يبيض مرة واحدة فقط.
- الديك بموت وعينه ع المزبلة: بمعنى أن الطبع غالبٌ وأن الإنسان على ما جُبل عليه.
- عيش يوم ديك ولا دهر جاجة: عش شجاعًا مقدامًا ولو ليومٍ واحدٍ وادفع الثمن، ولا تعش جبانًا طوال حياتك.
- اللي الديك دليلة القن مأواه/اتبع الديك وشوف وين بوديك: يقال لمن يتبع نصيحة جاهل غير مجرب في الحياة.
- اللي بده يقول للجاجة كِش بده يكسر رجلها: يقال لمن يكثر الكلام ولا يُحسن العمل.
- ما ظل في الخم غير ممعوط الذنب: يقال لمن يبدي رأيًا وهو لا يصلح لمثل هذا الحديث.
- الديك عليه يقاقي ما عليه يطلع النهار: يقال لتوضيح المسؤوليات
- كل ديك على مزبلته صيّاح: أي أن الرجل بين أهله وفي بلده يكون شجاعًا وصوته عالي.
- من يوم ما كبرتوا يا صيصاني ما شبع منقاري: يقال للدلالة على إيثار الآباء على أبنائهم.
- زي الصوص رزقه تحت رجليه: لمن كان رزقه ميسرًا ويصله دون جهدٍ كبير.
- سخنّا الميه طار الدّيك: يقال لمن يستعد لعمل معين فيحدث طارئٌ يلغيه.
- مثل الديك بوذن وما بصلي: يقال لمن يدل على الخير ولا يفعله.
- مثل الديك اللي ماكل فلفل: يقال للشخص الذي لا يسكت عن الكلام.
- مثل خرابيش الجاج: لمن كان خطه في الكتابة رديئًا.
- اللي بخلط روحه في النخالة بنقره الجاج: لمن يضع نفسه في مواقف غير سوية ويتعرض للنقد والعقاب.
- كل طيرٍ عايش بلقاطه: أي أن كل شخصٍ يعيش بمقدار رزقه وما يجنيه.
- اللي قلى جاج الناس يسمّن جاجو: كما تدين تُدان
- الدهن في العتاقي: الفائدة في الكبير ذو التجربة في الحياة.
- كل الديوك تدكنا حتى إنت يا أبو قنبره/كل الديوك تدكنا حتى الديك الممعوط: للضعيف الذي يتمرجل على الضعفاء.
اقرأ/ي أيضًا: غزال الجبل الفلسطيني: ارحموني
الديك والدجاجة في الحكايات الشعبية
يحضر الديك والدجاجة في الحكايات والقصص الشعبية بقوة، ما يعكس أهميتهما في حياة الناس. وأشهر تلك الحكايات، حكاية "الديك الهادر" الذي عثر على حبة قمحٍ استبدلها آخر المطاف بتاج العروس الذي لبسه وصار دائمًا معه وهو "عُرفه". وفي الحكاية نسمعه يُردد:
"أنا الديك الهادر.. روحت ع البياد.. لقيت حبة قمح.. حبة القمح برغيف خبز.. رغيف الخبز بضمة بصل.. ضمة البصل بجرة عسل.. جرة العسل بسخل.. السخل ببقرة.. البقرة بتاج العروس". والحكاية طويلة ولا مجال لسردها.
ويحكى أن طاووسًا أخذ ريش الديك الملون، ولأجل ذلك فإن الديك يصيح مناديًا على الطاووس لإرجاع ريشه. هذا إضافة لحكاية المثل القائل: "من قلة رجالنا سمينا الديك أبو قاسم".
يُقال إن الديك يصيح مناديًا على طاووسٍ أخذ ريشه الملون، ويُحكى أيضًا أنه ينادي منذ صنع نوح سفينته لتذكيره بالصلاة
ويُحكى أيضًا أن الديك أذن أول مرةٍ للنبي نوح، عند انشغاله بصناعة السفينة التي أراد النجاة بها من الطوفان، إذ انشغل بصناعة السفينة عن تحديد الوقت، فهيأ الله له ديكًا يؤذن. "ومن يومها صارت هذه مهمة الديك: يا نوح الصلاة.. يا نوووح!".
ولا يخلو التراث من طرائف أيضًا، منها أن ديكًا قال لدجاجةٍ "ما فائدة بيضك إذا كان غيرك يأكله؟" فأجابته: "ذلك خيرٌ من الذي يؤذن ولا يصلي!"
ويعد هذا الإرث المتعلق بالديك والدجاجة في التراث الشعبي، حصيلة تاريخٍ طويلٍ من التفاعل بين الإنسان والبيئة الجغرافية بما فيها من ثراءٍ وتداخلٍ حضاري، ونحن إذ نوثقه إنما نُحاول حفظ دُرر المروي والمحكي من تراثنا، وهي غيضٌ من فيض، وقليل من كثير، وما فاتنا أكثر مما فطِنّا له.
اقرأ/ي أيضًا: