27-أكتوبر-2016

الشتاء يمثل العمود الفقري للفلاحين - Getty

لا يملك أي فصل في السنة رصيدًا في الإرث الشعبي الفلسطيني مثل الرصيد الخاص بفصل الشتاء، فالشهور الثلاثة بين 22 كانون الأول "الانقلاب الشتوي" و21 آذار "الاعتدال الربيعي" غنيةٌ بمسميات وتقسيمات وتصنيفات خاصة، هذا إضافة لأمثال شعبية عديدة يتذكرها الفلسطينيون جيدًا ويستحضرونها إذا نزل المطر أو حين يجتمعون حول وسائل التدفئة المختلفة في الليالي الباردة.

يمثل فصل الشتاء العمود الفقري للسنة ويأخذ حيزًا غير عادي في الموروث الشعبي الفلسطيني

ويمثل فصل الشتاء "العمود الفقري" للسنة، حسب الفلاحين الذين لا حياة لهم بغير الماء للشرب والزراعة، ولذا نجدهم يبنون كُل آمالهم على موسم المطر ويستعدون له بتجهيز حطب التدفئة. يقولون: "في الكوانيين كِن في بيتك وكثر من حطبك وزيتك"، كما يُغني الأطفال مشتكين من شدة البرد عند قلة الحطب: "أح أح يا ربي قُصفة حَطب ما عندي".

اقرأ/ي أيضا: "أبو المواسم".. فرحة الفلاحين

ويُسارع الفلاحون لتنظيف الآبار وتجهيزها لجمع مياه الأمطار، ويحرصون على تجهيز المأكولات وخزنها في "الخوابي" وجرار الفخار استعدادًا لأيام الشتاء التي تهل بالمطر والبرد الشديد، مؤكدين أن رزق العام كله يعتمد على كمية المطر وحسن التدبير،  "اللي ما بزرع في الشتوية بشحد في الصيف"، "سيل الزيتون من سيل كانون".

ولعل أسوأ حدث في كل شتاء بالنسبة للفلاحين تأخر المطر، إذ يسارعون إلى "الاستسقاء"، أو ما يسمونه "شحدة المطر"، مبتهلين بأدعية وأناشيد يستحضرون فيها فقرهم وحاجتهم للمطر.

ومن الطقوس الشهيرة لأجل طلب المطر "التشريب"، وفيها يقولون:

"يا ربـي بَـلـه بـَلـه .. وإحنـا تحـتـك بالـقـلة

يا رب بل المنـديل.. قبل ما نرحل ونشـيل

يا رب ما هو بطـر.. بنطلب منك مطر

يا رب ما هو غيه .. بنـطلب منـك مية"

ويأخذ الشتاء حيزًا هامًا في الموروث المحكي، إذ يجد الباحث بسهولة مئات الأمثال وآلاف الأهازيج والأغاني حول المطر والشتاء والثلج والزراعة. كما أن ليالي الشتاء الطويلة كانت مسرحًا لسرد حكاياتٍ وطرائف وسمر جماعي، ما يجعل مكانة هذا الفصل في الموروث الشعبي ذاكرةً فلسطينيةً في مواجهة سياسة اقتلاع الإنسان من أرضه وسلخه عن هويته.

نسرد لكم هنا أم ما يرتبط بالذاكرة حول فصل الشتاء:

المربعانية: أربعينية الشتاء من عدد أيامها، وتبدأ من 22 كانون أول/ ديسمبر حتى أول شباط/ فبراير، وتمتاز بقصر نهارها وطول ليلها وكثرة مطرها وشدّة برودتها، يقولون: "ما سكعة (برْد) إلا سكعة المربعانية"، "سكعتها (برودتها) بترمي الجمل وبتهد الجبل"،  "في كانون الأصم اقعد في بيتك وانطم".

وتقسم المربعانية لثلاثة أقسام: "الإكليل والقلب والشولة"، وهي مواقيت مرتبطة بظهور النجوم في السماء. وأول المربعانية تُسمى "المعيب" لشدة بردها، والقسم الذي يليه يُسمى "الفحل" أي فحل الشتاء لكثرة مطره.

ودائماً يعلق الفلسطينيون الأمل على أمطار المربعانية، "أصلك ومطر المربعانية"، فهي على حد قولهم: "يا بتشرّق يا بتغرّق"، أي إما شمس مُشرقة أو أمطار مُغرقة، وهذا يظهر، كما يعتقدون، من أول أيامها، "يا بتربّع يا بتقبّع". ويقول المثل الشعبي على لسان المربعانية: "إذا ما عجبكم حالي بوديلكم السّعود خوالي"، وهي السعود الأربعة في خمسينية الشتاء.

يُقسم الفلسطينيون الشتاء إلى فترات زمنية لكل منها مواقيت محددة وخصائص تختلف عن بقية الفترات

خمسينية الشتاء: تبدأ من 1/شباط حتى 22/آذار، وهي أربعة أقسام كل منها 12 يومًا ونصف، "سعد الذابح، سعد بلع، سعد السعود، سعد الخبايا"، وتمتاز بمطرها وتقلب جوها، إذ يُقال: "شباط ما عليه رباط"، أو "شباط الخباط مره بيشبط، ومرة بيخبط، وريحة الصيف فيه".

وحول حكاية السُعود الأربعة فإنهم ذكروا في عدة روايات خلاصتها أن سعد سافر على ناقته فأدركته الأمطار والبرد، فذبح ناقته واختبأ فيها ثم اضطره نفاذ قوته لأن يأكل منها ويبلع من لحمها، قبل أن يغادر مكان اختبائه أخيرًا بعد أن نجا من الموت، وعلى ذلك قسمت الأيام وتسمياتها.

ومن أمثال السعود الأربعة: "سعد الذابح ما بخلي كلب نابح"، "في سعد السعود بتدور الميه في العود وبدفا كُل مبرود"، "في سعد الخبايا بتطلع الحيايا".

اقرأ/ي أيضا: الكنافة حين تعطي للمدينة شيئًا من مذاقها

الجمرات الثلاث: وفي الخمسينية تكون الجمرات الثلاث (جمرة الهواء، جمرة الماء، جمرة الأرض)، وهي مواقيت لقرب الصيف، قيل إنها نجوم في السماء وقيل حشرة (دودة) تخرج في هذا الوقت.

والجمرة الأولى (جمرة الهواء) تكون قبل أو بعد يوم/يومين من 7 شباط، وفيها يكون الهواء دافئا (شباط ريحة الصيف فيه). والجمرة الثانية جمرة الماء وتصبح المياه دافئة، والجمرة الثالثة في 21 شباط، وهي جمرة الأرض إذ تبدأ دراجات حرارة الأرض بالارتفاع.

المستقرضات: أو "أيام العجوز"، وهي سبعة أيام تكون في نهاية شباط وبداية آذار، وبالعادة تكون أيام مطر وبرد شديد تنال من العجائز لبردها، "إذا تأخر المطر عليك بالمستقرضات". وقيل في أصل حكايتها أن عجوزًا سخرت من شباط لقلة مطره، "راح شباط ودسينا (وضعنا) بقفاه مخباط"، فلما سمعها شباط استنجد بآذار: "آذار يا ابن عمي أربعةٍ منَّك وثلاثةٍ مني تا نخلي واد العجوز يغني"، فانهمرت الأمطار بغزارة.

وفصل الشتاء في المورث الشعبي الفلسطيني ليس مُقتصراً على التقويم الزراعي ولا على البُعد المَحكي تراثياً (أمثال وأهازيج)، بل نجد هذا الفصل زاخراً بكل أبعاد الحياة التراثية، كاللباس الشعبي الخاص بالشتاء، الذي يُصنع من فرو الحيوانات وصوفها، وكذلك الغنى في المأكولات المُرتبطة بهذا الفصل، إذ تمثل سلة غذائية مُتكاملة منها الزبيب والدّبس والعوامة والمهلبية والقُطين، "اللي معه قطين بوكل في أديه (يديْه) الثنتين".

وأشهر أكلات الشتاء وأيام البرد أو الثلج المفتول (البحبثون)، حتى قالوا عن مثل أيام الثلج والمطر الشديد، "اليوم يوم مفتول".


اقرأ/ي أيضا: 

مار سابا.. قصة دير مُحرَّم على النساء

الاستقبالات النابلسية.. رحلة في عالم النساء المنسي

السيرة القسرية للمدينة الفلسطينية