24-يوليو-2018

لا يزال صوت الفنان اللبناني أحمد قعبور حاضرًا في هوية الأغنية الفلسطينية. الفنان الذي صرخ "أناديكم" من أجل "نبض الضفة"، وأرسل في "يا رايح صوب بلادي" كلماته وألحانه للبلاد وأهلها المحاصَرين، ترك بصمة خاصة في الفن من أجل فلسطين والمقهورين، بعد عقود من الإبداع في الغناء والتلحين والتمثيل المسرحي أيضًا.

الترا فلسطين حاور الفنان أحمد قعبور حول مسيرته الفنية، وعلاقته بفلسطين وقضيتها.

س: حدّثنا عن طفولتك، وكيف نشأ أحمد قعبور؟

ولدت في عام 1955 في بيروت. عشت في بيت فيه أب مريض وأم متعبة، وصوت حوافر الخيل تيقظني عند الفجر، فكان الإيقاع الأول في حياتي. والدي كان الفنان محمود قعبور، وهو أول عازف كمان في بيروت المحروسة، وكان يحب الموسيقى رغم اختناقه كل مرة في الليل من شدة السعال والإرهاق، لكنه لم يشجعني أبدًا على الفن، حيث كان يخاف من الفكرة ومن تبعياتها ونظرة المجتمع والناس. لكني اكتسبت هويتي من بيروت وبحرها وعمقها وأسواقها وناسها، وبدأت أُغرد بصوتي وأغني. وبيروت مدينة كانت جميلة، ومع ذلك لم أتركها.

س: ماذا عن هوية أحمد قعبور الغنائية؟

مثل ما يوجد بصمة للعين وبصمة للأصابع، هناك بصمة للنغمة، تحمل فرديتنا في عالم نفتقد فيه الفردية. بصمتي هي مجالي في التعبير، أنا هنا موجود. وحين أغني أعود ذلك الصغير الذي يلعب أمام والدته وهي تحضّر مربى السفرجل على مصطبة بيتنا العادي في بيروت.

أحمد قعبور: أُحب أن أكون أحمد المغني، فأنا أكتب لأغني ولست بشاعر.. أعتبر نفسي ساعي بريد

وأحمد قعبور يحب أن يكون أحمد المغني، فأنا أكتب لأغني ولست بشاعر، أعتبر نفسي ساعي بريد، وثمة رسائل عليه إيصالها. أنجزت أكثر من 400 لحن ومقطوعة موسيقية، وغنيت 80 أغنية للأطفال، وتعبي يدفعني إلى الغناء. كتبت ولحنت وغنيت في المسرح كثيرًا، وكتبت أعمالاً إذاعية وعملت في السينما لأني قليل الكلام، وربما كثيرون لا يعرفون ذلك.

أما الموسيقى، فأحبها لأنها تنهل من الشعوب وتحولها إلى لغة، وكل موسيقى الشعوب هي نتاج جمعي.

س: أخبرنا بقصة أغنيتك الشهيرة "أناديكم"، وهل يُمكن القول أنها كانت نقطة انطلاقتك؟

ما لا يعرفه الكثيرون، أن اول محطة للأغنية (أناديكم) كانت في مستشفى ميداني في بداية الحرب اللبنانية الأهلية عام 1975، وقد لحنتها بنفسي حيث كان عمري 19 عامًا، ومعي فرقة موسيقيين شباب، فدخلنا المسشتفى بالمعدات وسط دهشة الممرضين والأطباء. سألونا عن سبب قدومنا، وأخبرناهم أننا سنغني في المستشفى، وردوا علينا "هذا أمر غير معقول" لكن أصرينا أن نغنيها، وغنيناها في ممر المستشفى وبين الجرحى الذين يخرجون من الممر، ولم أكن اعلم أن ما ارتكبته هو أجمل الورطات في حياتي.

كل التحية للراحل الشاعر الفلسطيني توفيق زياد الذي كتب "أناديكم" كقصيدة في البداية، وهنا بدأ احمد قعبور في كل البيوت العربية وارتبطت "أناديكم" بي أينما تنقلت في العالم.

س: قعبور من أكثر الفانين الذين غنوا لفلسطين. وبعد كل هذا الذي يحدث، هل هناك أمل؟

القضية الفلسطينية دخلت في مسارات كثيرة، منها الكفاح المسلح بدءًا بمعركة الكرامة في الأردن عام 1968، ثم مسار المفاوضات، ثم مسار الانتفاضة الأولى والثانية، لكن للأسف جاء الانقسام الفلسطيني الذي أصبح موجعًا أكثر من الاحتلال.

لكن مهما كان، لازال هناك أمل، بل نحن محكومون بالأمل، والأجيال القادمة هي من تصيغ مشروعها في استعادة أرضها والدولة الفلسطينية، وهو ما حاولت إيصاله في أغنية "مين" مع صديقتي الراحلة ريم بنا، التي أطلقناها خلال العدوان الإسرائيلي على غزة في تموز/يوليو 2014، وهي تتحدث عن آمال الجيل الفلسطيني الذي ترعرع على دمار فلسطين ومدينة القدس وشهداء غزة وغيرهم، وأنها ستشرق الشمس أمام نظرة عيون أطفال فلسطيين.

س: تأثرت كثيرًا لفراق الفنانة الفلسطينية ريم بنا ودونت كثيرًا عنها، ولكم قصة سويًا في إنتاج أغنية "مين".

ريم اختارت منذ البداية أن تكون حرة وقاتلت على جبهات متعددة في بداياتها، وكانت تشعل أملاً وحبًا كبيرين في زمنٍ عزف الحب عنه. أذكر ريم عندما كانت ضيفة في منزلي وكنا نتحدث عن أكلة "المناقيش"، وهي تقول "أكلة تشبه بلادنا". في ذلك الوقت، الاحتلال الإسرائيلي ارتكب مجزرة الشجاعية في غزة، وقررنا أن ننتج أغنية على إثر أحداث المجزرة، فكتبت أغنية "مين"، وعن سؤال نناقشه في الأغنية "من سيفتح الباب على فلسطين بعد كل مسارات الكفاح والمفاوضات والانتفاضات الفلسطينية؟"، وهي قررت أن تعبر عن حريتها في كلام من الحب والإيمان.

أحمد قعبور: قررت مع ريم البنا إنتاج أغنية "مين" إثر مجزرة الشجاعية في عدوان 2014

لم تكن فلسطين مجرد قضية وطنية أو ايديولوجية بالنسبة للريم، بل قضية إنسانية وأخلاقية، وقضية الالتزام بهموم الناس هي ما جمعتني معها. أنا اجزم ان مرضها استطاع السيطرة على كل خلايا جسدها إلا خلايا الإرادة، فقاتلت المرض، وقاتلت الاحتلال الإسرائيلي، وهوجمت لأنها اعترضت على النظام السوري لأجل قضية الإنسان، وواجهت ثقافة التصنيف والتخوين. كانوا يريدونها بين مطرقة الإرهاب أو الجزمة العسكرية، لكنها قاتلت في مساحة الحب والحرية، سواء في فلسطين أو في سوريا، وانحازت لكل الشعوب الحرة والمظلومة.

س: يُقال أن أهم محطات خروج الأغنية الفلسطينية المقاومة كانت في لبنان، كيف تنظر لتلك المراحل؟

فنانو لبنان بسطوا أرضية الأغنية الثورية لفلسطين، واشتركوا فيها، وقد سطرت فيروز والرحابنة سلسلة من روائعهم الإبداعية التي نُقشت في وجدان وحس الشعوب العربية، منها "زهرة المدائن"، "القدس العتيقة"، "ردني إلى بلادي"، "سنرجع يومًا"، "بيسان"، "غاب نهارٌ آخر". أيضًا سلفادور عرنيطة الذي لحن وقدم "سجل أنا عربي" لمحمود درويش في ثوب أوبرالي مع الأوركسترا.  وكذلك بول مطر الذي لحن بعض قصائد محمود درويش كذلك، وغناها في مهرجان الشباب في كندا عام  1974.

وتتقدم المغنية جوليا بطرس بمجموعة من الأغاني، ويصر الفنان وليد توفيق على تواجده في الساحة النضالية للفن بشكل متكرر. ولماجدة الرومي مشاركاتها وإبداعاتها. كما أن لكارول سماحة وملحم بركات وغيرهم مشاركات تعلن عن مواقفها الرافضة للظلم والعدوان. مارسيل خليفة أيضًا قدم لفلسطين العديد من الأعمال الغنائية المعبرة، استقبلتها الجماهير واحتضنتها بحميمية نادرة، بدءًا من ألبوم "وعود من العاصفة" حتى "ركوة عرب".

أحمد قعبور: لبنان بسطوا أرضية الأغنية الثورية لفلسطين، واشتركوا فيها

كما أني غنيت مجموعة من الأغاني زاوجت بين الهم اللبناني والفلسطيني، لأنه لا فرق بينهما، مثل "أناديكم" و"اسمع" و"منفيًا" و"ارحل"، و"عودة"، و"البيارق"، و"منسيين"، و"نحن الناس"، و"نبض الضفة"، و"يا رايح صوب بلادي"، وكذلك "أحن إلى خبز أمي"، وهي نفس القصيدة التي غناها مارسيل خليفة بألحانه لاحقًا، وأغنية "لاجيء سموني لاجيء" خلال فعاليات القدس عاصمة الثقافة العربية عام 2009 في بيروت.

س: أحمد قعبور من الأسماء التي برزت في بداية الحرب اللبنانية الأهلية عام 1975، ونشطت في اللجان الشعبية لدعم المواطنين في مواجهة الحرب؟ كيف تصف تلك المرحلة وخصوصًا انك بدأت تغني للاطفال؟

في تلك الفترة، وقبل أغنية "أناديكم" نشطت في العمل التطوعي لمواجهة الحرب، وكنت واحدًا من مجموعة شكلت لجنة لتأمين احتياجات الأهالي من مواد تموينية ولقاحات للأطفال وغير ذلك. كانت رغبتي في المسرح والسنيما أكثر، لكنّي غنيت إلى جانب مسرح الأطفال، ومع فرقة السنابل كنت أحيي مسرح الأطفال. كانت الحرب تشتد ونحن نكافح لكي نقدم عروضنا للأطفال، وكانت نقلة جميلة أن هناك جيل لبناني عاصر تلك الفترة ويتذكر عروضنا رغم الحرب الأهلية.

س: لك باع طويل في مسرح الأطفال؟ هل نحن نعاني من ضعف سينما الأطفال في الوطن العربي؟

في مصر والمغرب ولبنان كانت عروض قوية في مسرح الأطفال. ورغم أني وقتها بدأت أُعرف كمغني وصل صوته للبيوت العربية، لكنّي لم أترك مسرح الاطفال، فكنا عندما ننتج عملاً للأطفال يرافقنا مختصون نفسيون للأطفال، لذا كان جيل كبير من الأطفال في الستينات السبعينات والثمانينات وحتى التسعينات كبُر في ذاكرة جميلة في تلك المسارح، لكن أين هي اليوم أمام التطور؟ وأمام أعمال تقدم للأطفال بمحتوى مؤلم لا يتناسب معهم؟

هجر عدد كبير من الفنانين، مسرح الأطفال، لقلة العائد المادي مقارنة مع عالم صناعة السينما والإنتاج الآخر، وعزوف العاملين فيها إلى مجالات أخرى، وعدم الحفاظ على قيمته الإرثية والقيمة في المنتج الجميل فيه.

س: اعترضت كثيرًا على الانظمة العربية والانتصارات السياسة التي تتحدث عنها في ظل أن فلسطين لا تزال جريحة، كيف تنظر لواجب الأنظمة العربية لفلسطين؟

نختلف كلنا في رؤيتنا السياسية جميعًا وحتى انتماءاتنا، لكن نتشابه في القضية الإنسانية الداخلية، نحن داخل منظومات سياسية ندفع ثمن أخطائها، لا أعلم عن أي انتصارات نتحدث، ونحن دائمًا نسمع  عن محاور قوى سياسية تتحدث أنها تحكم أربع عواصم عربية، وغيرها من قوى محورية، لكنهم نسوا وجود إسرائيل، وهذا ما أنظر له.

أحمد قعبور: ممنوع التحدث في أي نصر عربي أو إقليمي عربي أو ايراني، وهناك شعب فلسطيني محتل

ممنوع التحدث في أي نصر عربي أو إقليمي عربي أو ايراني، وهناك شعب فلسطيني محتل وتحت الحصار. كيف يُحكى عن انتصارات عربية ولا زالت فلسطينية محتلة، هذا أمر معيب، وأي محور إيراني أو سعودي يدعي الانتصار، هو انتصار واهم وانتصار أعمى، لأن الشعوب المحاصرة من غزة إلى رام الله والمدمرة من الموصل حتى حمص، تشهد أن انتصارهم معيب واستخفاف في آلام الناس.

س:  هل يتوحد العرب ثم يتوحد الفلسطينيون، أم أن فلسطين هي من تتوحد ويتوحد العرب؟

الأقرب للصورة هو أن يتوحد الفلسطينيون أمام مواجهة مصائبهم من الاحتلال والانقسام قبل العرب، فهم أسياد قضيتهم.

س: كثيرًا ما تحدثت عن حلم الغناء في فلسطين، وأن تغني "أناديكم" كأنها أول مرة في الأرض المقدسة. هل يمكن أن يتحقق في يوم؟

لا أنكر ولا أخفي ذلك، وأتمنى لو أغني في غزة أولاً ورام الله والقدس، لكن دون العبور على حاجز إسرائيلي، طالما صوتي يصل فهذا شيء مهم، ولو أُزيلت الحواجز الإسرائيلية سأغني بشرف في فلسطين، ثم بعدها في دمشق.


اقرأ/ي أيضًا:

وليد توفيق: حلمي زيارة فلسطين بسيارتي والغناء في غزة والقدس

عدنان الصائغ: الشاعر يبقى مرتدًا ومتمردًا

أسامة العيسة: نكتب على حواف الجنس والدي