24-نوفمبر-2018

كنت في تونس -قبل أيامٍ- في مؤتمرٍ دوليٍ غريب عجيب بعنوان "الصحافة الإيجابية"، حضره أناسٌ مجتهدون ومثابرون "ولا يشربون الكحول"؛ من أوروبا والعالم العربي وكل الدنيا، وكان لافتًا حجم دخول تخصصاتٍ لا حصر لها في مهنة الصحافة. من صحافة البيانات، إلى التحقق، إلى صحافة الموبايل، إلى القصة المرقمنة، إلى صحافة الحلول، وبناء صحافة الويب، ثم "الصحافة الإيجابية" التي كنت أُخطئ في نطقها فأقول "الصحافة الإنجابية".

إحراجاتٌ كثيرةٌ بدأت تحاصر الأقلام والكاميرات التقليدية، غرف الأخبار في وسائل الإعلام -بصراحةٍ- أصبحت أمام ضغط الانتقال إلى الصحافة الرقمية. الفضائيات بدأت تحاكي اليوتيوب. نشرات الأخبار أمام منافسٍ سريعٍ وشرسٍ هو الفيديو المصور والمُعدُّ على الموبايل. المالكون بدأوا يعزفون عن الاستثمار في فضائيات، فقناة يوتيوب صغيرة ومجانية الترخيص والتسجيل قد تنتج محتوى تعليميًا أو إخباريًا أو دراميًا أهم من فضائيات الثلاثين عامًا الماضية.

لن تأتِ سيارة توزيع الجريدة بعد الآن إلى باب المطبعة، وسيختفي صوت "أبو كامل" من الشوارع عندما كان يصرخ: "جريدة جريدة"

التحول يشتغل في المواقع المهيمنة على الاتصال البشري، موقع انستغرام البائس فتح تلفزيونًا بائسًا له. وهو على شفير الهاوية لأن فيديوهاته تزيد عن الستين ثانية.

اقرأ/ي أيضًا: خريجو صحافة للعتالة والعمل بتراب المصاري في غزة

التحول في عالم الكاميرات مثل غرفة المجانين، ثمة تصويرٌ جديدٌ بتقنية 360 درجة، جاء من عالم ألعاب الأطفال ليدخل الصحافة، وهذه الصورة الناتجة عن هذا النوع الجديد من الكاميرات، بحاجةٍ إلى تقريرٍ صحفيٍ جديدٍ وطريقة بثٍ مباشرٍ جديدةٍ ستلوّح برقبة المراسل على الهواء مباشرة، وهو يصف للجمهور كل دائرة الرؤية التي يحركها "مستر يوزر" بأصبعه. وقريبًا سيعلقون المراسلين من أرجلهم لكي يحيطوا بكل ما في الشاشة من تفاصيل.

يا إلهي! 

في الصحف والمواقع انفجرت القوالب الإخبارية، لم يعد هناك مكان لـ"المانشيت"، غادرت هذا الفكرة التي لطالما تمنطق بها الساسة والصحفيون. الإعلام الرقمي قطع أذن الجريدة اليسرى، والتتمات ومونتاج البليتات يلفظ أنفاسه الأخيرة. لن تأتِ سيارة توزيع الجريدة بعد الآن إلى باب المطبعة، وسيختفي صوت "أبو كامل" من الشوارع عندما كان يصرخ: "جريدة جريدة".

مات الخبر وتبخرت القصة يا جميل، أو لنقل "سخطوها"، وصارت الفنون الصحفية "انفوغراف"، و"فيديوغراف"،و"بودكاستيغ"، و"اي جي بلاص" على رأي الجزيرة. بات مطلوبًا من كتاب الأعمدة تدوين أنفسهم صوتيًا، فلا وقت للقراءة "يا حبيبي"، أصلاً العالم الجديد بلا عيون وكله نظاراتٌ وكاميراتٌ وإنترنت.

علم الزمالة أصيب بالجنون، فمرات يكون الإنتاج "One Man Show"، صحفيٌ واحدٌ ينتج النص والصوت والصورة، ومرات صارت "إدارة محتوى" تحتاج إلى فريق من الصحفيين لأنتاج تحقيقٍ استقصائي في البيانات، أو لتشكيل دائرة تحقق من معلومات ما.

علم المشاهدة أو الفرجة والاستماع، والمقروءة أيضًا، أخذت وضعيات مد الأرجل أو النوم على جنب، أو الاستحمام والاستماع معًا. لم تعد عمليات استهلاك المحتوى الإعلامي جماعية، وليست فردية فحسب، بل تحت الأغطية على أسرَّة النوم، أو عبر "موبايل" مخبئ في حقيبة، ودراسات الاستهلاك الإعلامي "أكلت هواء" بصراحة، ولو عاد "ماكسويل" بنظرية الاستقبال الإعلامي لتهشمت النظرية على أبواب تطبيقات كلمات السر على كل موقع اتصالي.

رقمنةٌ في كل مهمة صحفية، المحتوى الإعلامي يتضخم بجنون، الأخبار الكاذبة تملأ الدنيا، تقنيات التصميم الجرافيكي تقول للناس ما لا يفكرون به، أخلاقيات النشر في الحضيض، لا مكان لمحمد كريشان كمذيع السلاسة والذكاء التلفزيزني، ثمة مذيع ذكاء اصطناعي يضعون عليه اللمسات الأخيرة الآن في المصنع، وما هي إلا أيام حتى يحتل مذيعون مُأَتْمَتُونَ الشاشات وبدون أي كلفة أو غبرة على مكاتبهم، أو استخدام غير متقن للتواليت.

قلت إن الحقل الذي يجب أن نبدأ في إطلاقه في العلوم الإعلامية هو أخلاقيات طائرة التصوير اللعينة هذه

في تونس جلست كأي مشاركٍ مجتهدٍ في قاعة المؤتمر، وجاء رجلٌ فرنسيٌ وسيمٌ من إحدى وسائل إعلام باريس، وبدأ يتحدث عن "درونز"- طائرات التصوير الجوي الصغيرة-، وكيف نؤنسن تصويرها، ومتى نستخدمه داخل الاستوديو وخارجه، ومن شباك الاستوديو ومن حديقة هيئة البث، وللحظة شعرت أن هناك مبالغة في الموضوع.

لكني بالفعل شعرت أن كلام الزميل الفرنسي يستحق الاهتمام، فالطائرة هذه صرعتني قبل أشهر في رام الله عندما كنت في حفلٍ لأغنية "شو هالحب الترللي"، وصار مصورٌ شابٌ يلعب بالطائرة فوق رؤوسنا يمينًا وشمالاً، وأزيزٌ ومراوح كالشفرات وإضاءاتٌ زرقاء صغيرة مثل عيون العقرب. قلت إن الحقل الذي يجب أن نبدأ في إطلاقه في العلوم الإعلامية هو أخلاقيات طائرة التصوير اللعينة هذه، فينبغي أن نطالب بعدم التصوير دون تنبيهٍ مسبقٍ أو أخذ إذن، فماذا لو بثت الطائرة اهتمامي المبالغ فيه بالفتاة التي كنت معها في الحفل؟ وماذا لو فلتت الأوامر من الطائرة وصورت عائلة في صالونها في مبنى مجاور؟ وماذا لو صورت خصوصياتٍ عشاق في مطاعم وأزقة محاذية؟ أو على أسطح عمارات؟ وماذا لو كانت في بثٍ مباشرٍ ووصلت إلى أماكن خصوصيةٍ أو تصرفاتٍ سريةٍ لمواطنين؟

اللعنة! ما الذي جاء بـ"الاتصاليون" إلى الصحافة؟ لماذا لم يذهبوا للطب أو الصيدلة باختراعاتهم وتطبيقاتهم وكبسولاتهم؟ واضحٌ أن الصحافة هي الخاصرة الرخوة للعلوم الاجتماعية التي يركبها كل متنطع وكسول واستهلاكي وهامل.


اقرأ/ي أيضًا:  

في غزة.. للجرائد استعمالات متعددة إلا القراءة

أعود لأكتب

غزة حزينة.. ياسر مرتجى شهيدًا