11-نوفمبر-2018

بنظاراتٍ طبيةٍ وبصيرةٍ عوضًا عن حواسٍ بدأت تختفي قليلاً، أعود للكتابة بعد عامين من التوقف، وفي الانقطاع تسليت لأشهرٍ طويلةٍ في تجميع مقالاتٍ سابقةٍ وضعتها في ملف باسم "كتابي الذي أحلم بطباعته ونشره"، وتركت الكتاب يذوي ويموت على سطح المكتب، علمًا أن كثيرين قالوا لي: أنشر. فأفشلت فكرة النشر، لأني تذكرت أن نصف السياسيين عندما نسألهم عن سبب وجودهم في مناصبهم يقولون: الأصدقاء ألحوا علينا.

كثيرون قال لي أُنْشُر. فأفشلت فكرة النشر، لأني تذكرت أن نصف السياسيين عندما نسألهم عن سبب وجودهم في مناصبهم يقولون: الأصدقاء ألحوا علينا.

ماتت فكرة نشر الكتاب بتفسيرٍ يعود إلى بداية الكتابة مع جيل التسعينات، مع زياد خداش وجمال القواسمي ومنير زعرور. آنذاك كنت أقول أنني كاتبٌ تجريبي، الفكر تجريب، والكتابة تجريب، وممنوع أن يكون لهما مدرسة أو مشروع، أو إصدارات، وها أنا أبرر فشلي لنفس الفكرة بالتوقف والانقطاع والعودة دون أن أعرف إلى أين سأصل.

أشعر أن فكرتي عن "التجريبية" في الكتابة هذه هراءٌ في هراء، وأن على الكتاب الشبان أن يبزغوا ماركسيين متشددين، أو إخوان لا تأخذهم في العلمانية لومة، أو جذريين مجانين يخلطون الجسد بالأوراق الخضراء الممنوعة التي شرعت كندا في استخدامها.

في انقطاعي عن الكتابة عرفت شيئًا جديدًا، هو العجز في الكتابة، شلل اليد وانسحاب الفكرة وخوف القلب من التناول، ووسط هذا الجحيم كنت أعايش لغة مجهدة ومعاني لا تولد وأبطالاً غير واضحين، منهم مثلاً أولادٌ وبناتٌ من عائلاتٍ فقيرة يلبسونهم أشكال دمى رسومٍ متحركةٍ ليرقصوا في افتتاح متاجر كبرى في رام الله. يا إلهي ما اقوى أدوات الرأسمالية! إنها توظف حتى سعادتهم. إنها تسعدهم حقًا، تُحولهم إلى رموز للسعادة! وتحت وجه "ميكي" أو "باغز" الذي يتطاير رقصًا وفرحًا، يختفي وجه طالبةٍ جامعيةٍ فقيرةٍ أو ولدٍ يحلمُ أن يظل قادرًا على شراء علبة سجائر؛ وأن يساهم في مصروف العائلة، أو يشحن رصيد هاتفه ليقول لصديقته: "مش جاي عبالي أحكي معك".

شلل الكتابة هذا كان يصيبني عندما أرى المتحدثين على المنابر وهم يفرُغونَ من إلقاء الكلمات، ينزلون عن الخشبة فيسلمون باليد على كل الصف الأول في قاعة الفعالية. ابتساماتهم الفارغة، موجات البيروقراطية التي تصدر عنهم، طيف العقاب الذي ينهال من السماء، كل هذا كان كافيًا ليقول لي: من أنت لتقول أو تكتب أو تقدم حكمًا. الممارسة أهم من موقفك وفكرتك وكل الكتابة.

كان من نوبات الشلل هذا، عجزي عن كتابة مقالة ساحقة بعنوان "حديد مجلفن"؛ عن مواسير حديدٍ لامعةٍ توضح مسارب الطوابير في المستشفيات والبنوك ومواقف ركاب الحافلات، وعلى الجسور، وإن لم تكن أحزمة قماشية لتكن خطوطًا فسفورية على البلاط، أشكال شياطين أو إشارات ضوئية، المهم انها تخلق طابورًا محترمًا يكسر الفوارق بين الطبقات ويساوي بين المليونير وحاجب المدرسة المتقاعد.

سأعود للكتابة هذه المرة راميًا من يدي كل أملٍ في أن أكون مفيدًا لأي جهة، ولكني حتمًا سأحاول أن أظل تجريبيًا، فلا يقين لأي فكرة، وسأظل أعتبر أن المقالة ابنة لحظتها وليست فكرًا زمانيًا كاملاً، وأنها ضمير غير المتكلمين، أو غير المعبر عنهم، ومصير صاحبها عشرين شخصًا من القراء الحميمين بلا تصفيق أو جوائز.

يا رب يسر لي وقائع غير سياسية للكتابة، وجفف من عقلي فكرة "وضع الحل"، وأعطني هوية منفى حتى لا أشعر أنني من الخليل وجنين فقط، وسلم أوراقي لفكرة بقاءٍ أعمق من المشاريع السياسية أو الابتكارات والاختراعات المعرفية.

أريد أن أعود للكتابة مهما كانت إضافاتي ضعيفة. أريد أن أتوقف عن كوني ماكينة تعليم وصحافة فقط.


اقرأ/ي أيضًا: 

ساعة غسان كنفاني

بائع يكتب عن بائع

حسين البرغوثي: العابر الهائل في الضوء الأزرق