14-يونيو-2023
أرشيف النكبة على التلفزيون العربي - ليلى بارسونز

أرشيف النكبة على التلفزيون العربي - ليلى بارسونز

تجمع الأبحاث الأكاديمية المعاصرة حول الاستعمار الاستيطاني في فلسطين على أن "النكبة بنية وليست حدثًا"، أي أنها مستمرة في حياة الفلسطينيين منذ أكثر من سبعة عقود، فمفاعيل تلك اللحظة ما تزال قائمة حتى يومنا، في شواهد حية مثل المخيمات والجدار وتشظية فلسطين وممارسة الاحتلال اليومية. وحيث أن النكبة في استمراريتها لم تكن نهاية المشروع الصهيوني، فإنها لم تكن بدايته أيضًا. فقد سبقها طريق طويل، مهدته بريطانيا في انتدابها على فلسطين، أمّا أبرز تجليات الطريق البريطاني المتماهي والداعم للصهيونية والذي انعكس في قرار تقسيم فلسطين، فقد كان "لجنة بيل" أو "اللجنة الملكية لفلسطين"، وهي اللجنة التي ولدت فيها فكرة قرار التقسيم بشكلها الأكثر وضوحًا، قبل أن تتبلور فكرةً في الأمم المتحدة بعد 11 عامًا.

هذه اللجنة كانت موضوع الحلقة الأولى في برنامج "أرشيف النكبة"، الذي عُرض على شاشة التلفزيون العربي بالتزامن مع الذكرى 75 للنكبة، وجاءت بعنوان "وثائق لجنة بيل السرية وأسرار تقسيم فلسطين - أرشيف النكبة"، إذ استضافت الحلقة الأكاديمية البريطانية المهتمة في فلسطين ليلى بارسونز، والتي انشغلت بحثيًا خلال السنوات الماضية في أرشيفات لجنة بيل ونشرت عملها البحثي بعنوان "الشهادات السرّية أمام لجنة بيل (الجزء الأول): خفايا الإمبراطورية" و"الشهادات السرّية أمام لجنة بيل (الجزء الثاني): التقسيم"، في مجلة الدراسات الفلسطينية.

وتكمن أهمية انشغال بارسونز البحثي في تنقيبها داخل أكثر من 400 صفحة من محاضر اجتماعات وشهادات لجنة بيل، التي كُشفت بعد 81 عامًا من إتمام عملها، فيما جاءت خلاصة بارسونز عن اللجنة، بالقول: "يمكننا أن نرى في لحظة لجنة بيل نقطةَ تحول، تمثل فيها النكبة النتيجة الأكثر ترجيحًا". ويُعيد وثائقي "أرشيف النكبة"، من خلال استضافة بارسونز الاعتبار إلى لحظة مؤسسة وفاصلة في الانتداب البريطاني، وفي توجه المشروع الصهيوني في فلسطين ككل، إذ ينطلق من نقطة مأسسة فكرة تقسيم فلسطين من خلال لجنة بيل، التي وصلت إلى فلسطين في أعقاب انطلاق الثورة الفلسطينية الكبرى، في محاولة للحد منها وإيقافها.

وإلى جانب ما سبق، تقدم بارسونز تأطيرًا لعمل لجنة بيل الملكية في فلسطين، إذ تقول في الحلقة: "كانت لجان التحقيق جزءًا في غاية الأهمية من بنية الحكم الاستعماري البريطاني. لقد كانت أداةً رئيسيةً للتعامل مع الأزمات، وفي هذه الحالة كانت الأزمة هي الثورة الفلسطينية عام 1936".

وعن الثورة الفلسطينية الكبرى، والتي تُعد من أبرز الهبات الفلسطينية النضالية، تقول: "الثورة كانت أخطر تحدٍ يواجهه الحكم البريطاني منذ بدء الانتداب، لذا كعادة البريطانيين، فقد قاموا بإرسال لجنة لمحاولة تهدئة الأمور، وإعطاء فرصة لالتقاط الأنفاس، ومنح فرصة للجيش لإعادة تنظيم صفوفه، وربما جلب بعض التعزيزات، تحسبًا لاحتمال اندلاع الثورة مرة أخرى، كما أن البريطانيين يفضلون حل هذا النوع من المشاكل والأزمات من خلال المفاوضات، فهي أقل تكلفة، وأقل إثارةً للاضطرابات".

ويُعيد وثائقي "أرشيف النكبة"، من خلال استضافة بارسونز، الاعتبار إلى لحظة مؤسسة وفاصلة، في الانتداب البريطاني، وفي توجه المشروع الصهيوني في فلسطين ككل
ويُعيد وثائقي "أرشيف النكبة"، من خلال استضافة بارسونز، الاعتبار إلى لحظة مؤسسة وفاصلة، في الانتداب البريطاني، وفي توجه المشروع الصهيوني في فلسطين ككل

وتدور أهمية عرض عمل بارسونز البحثي عن فلسطين، والذي يتمحور حول مرحلة ما قبل عام 1948، في إعادة تأطير وفهم المشروع الصهيوني في فلسطين، وعلاقته في الحاضرة الأم، والتي كانت بريطانيا حينها، إذ تشير ليلى بارسونز إلى أن الخريطة التي قُدمت في لجنة بيل، والتي افتتحت أول نقاش رسمي عن التقسيم، كانت من بين الخرائط التي اعتمدت في بناء قرار تقسيم فلسطين بعد 11 عامًا، وهو القرار الذي فجر حرب النكبة.

خبراء الإمبراطورية

تقدّم بارسونز في حلقتها على "التلفزيون العربي"، ثلاث شخصيات بريطانية، لعبت دورًا في خلاصات لجنة بيل، تنسج من خلالها حكاية امتزج فيها دعم الصهيونية، مع الطموح الشخصي وكراهية العرب وبيروقراطية الاستعمار، الذي يرغب في حلول ناجزة في الحاضر.

والشخصيات الأساسية في لجنة التحقيق هي رئيسها الإيرل پيل، بالإضافة إلى دوغلاس هاريس، وهو ضابط بريطاني متوسّط ومن أشد المتحمسين لقرار التقسيم، وقدم خرائط ترجح الدراسة استخدامها النهائي في الوصول إلى قرار التقسيم، وتقول عنه بارسونز إنه "مثال جيد على الرجل البيروقراطي الاستعماري البريطاني الأعمى أخلاقيًا".

الشخصية الثانية، هي الضابط البريطاني لويس أندروز، الذي كان حاكم منطقة الجليل واغتيل بعد أشهر معدودة من شهادته في لجنة بيل، ويعرف عنه العداء للعرب، وكان منحازًا لليهود والصهاينة. أمّا الأسوأ في دوره فقد كان أخذ دور المتحدث عن وجهة النظر العربية، ودفع اللجنة نحو قرار التقسيم، باعتباره حلًا يفضله العرب.

الشخصية الثالثة، هي ريجنالد كوبلاند، وهو أكاديمي صارم قادم من جامعة أكسفورد، ومختص بالمستعمرات البريطانية، وألمح إلى حاييم وايزمان للمطالبة بتقسيم فلسطين خلال جلسات لجنة بيل السرية، وما عرف عنه هو جهله بفلسطين تمامًا، فقد كان أكاديميًا استعماريًا مختصًا في أفريقيا بالأساس. وتشير بارسونز لكون كوبلاند المحرِّض الأساسي على قرار التقسيم، ودعم الصهاينة في الجلسات السرية. وكانت سِمَة اللجنة غياب الحسِّ الأخلاقي، من خلال التركيز على العمل اليومي البيروقراطي، ومناقشة تفاصيل إمكانية تنفيذ قرار التقسيم، كما كانت تبحث عن ذرائع من أجل التخلص من الأزمة، وأخرى شخصية، إذ كان يُنظر للتقسيم باعتباره حلًا ناجعًا وإخلاء لمسؤولية الاستعمار.

يد الصهيونية في اللجنة

أمّا قصة اللجنة، فهي جزئية أخرى تطرحها بارسونز في "أرشيف النكبة"، إذ تؤكد على تدخل الصهاينة في صلاحيات لجنة بيل ومهامها حتى قبل مغادرة لندن، مشيرةً إلى أن هذا الترتيب شمل تنظيم اللجنة وترتيب الشهود والإجراءات داخلها. وقُدمت في اللجنة 62 شهادةً علنيةً، و61 شهادةً سريةً، وقد كانت السرية أطول بكثير وأكثر علانية، كما اقتصرت على قادة المشروع الصهيوني والبريطانيين. وتقدم بارسونز قراءةً هامةً لمقاطعة اللجنة من قبل العرب، تعيد الاعتبار للموقف السياسي بكثير من الإنصاف، إذ رفضوا المشاركة فيها بداية، قبل المشاركة في الجلسات العلنية فقط. والمقاطعة الفلسطينية جاءت نتيجة رفض بريطانيا إيقافَ الهجرة الصهيونية إلى فلسطين، فيما جاء التراجع عن المقاطعة نتيجة ضغوط الدول العربية المجاورة، وحاجة بريطانيا لإضفاء الشرعية على عمل اللجنة.

أرشيف النكبة على التلفزيون العربي

وتنصف بارسونز المقاطعة العربية للجنة بقولها: "لا أظن أن هذه اللجان بالمجمل كانت في أي وقت مساحةً للعمل السياسي للفلسطينيين، فقد كان كل شيء مُرتبًا ضدهم. لذلك، أنا لا أقول إن الأمور كانت لتختلف لو أنهم حضروا".

اللجنة التي وصلت إلى القدس في تشرين الثاني/ نوفمبر 1936، أنهت عملها في شهرين فقط، بخلاصة قد تكون مقررةً سلفًا، خاصةً مع إشارة بارسونز إلى أن محاضر الاجتماعات غير الرسمية، التي عقدتها اللجنة مع حاييم وايزمان على سبيل المثال غير موجودة، وقد تكشف عن نقاشات متقدمة بما يخص تقسيم فلسطين.

وفي حديثها مع "التلفزيون العربي"، تعيد بارسونز الاعتبار إلى لحظات مفصلية في تاريخ فلسطين، تسبق حدث النكبة، الذي كان النقطة التي تجمعت فيها الأحداث السابقة، وشكلت نقطة انطلاق نحو أحداث أخرى قادمة. ومن خلال مجموعة من الوثائق "السرية والحساسة"، التي كشفت بعد 81 عامًا، من إعدادها وإرسالها للأرشيف الاستعماري، تقدم بارسونز سرديةً تحاول رسم صورة للتعاون الصهيوني مع المركز الاستعماري، وتكشف عن عبث إمبراطورية آفلة، لا يزال حاضرًا حتى يومنا.

أرشيف النكبة على التلفزيون العربي