06-أبريل-2020

صورة توضيحية: مقبرة فلسطينية - gettyimages

شهدت فلسطين وعموم بلاد الشام أحداثًا هامة عبر تاريخها، إذ كانت على الدوام مسرحًا للحروب والمعارك، وفي ذات الوقت لم تسلم من الأوبئة والجوائح والزلازل والمجاعات, ويُمكنني القول أن البلاد بُليت برباعية الموت: الحروب والمجاعات والأوبئة والزلازل، حيثُ كانت تجتاح فلسطين بين الفينة والأخرى إحدى هذه الأربعة القاتلة، فتحصد من حين لآخر مجموعات قد يقل عددها أو يكثر، تبعًا لحدوث الكارثة وامتدادها زمنيًا وانتشارها جغرافيًا.

كانت جوائح الأوبئة كالطاعون والكوليرا والجدري والجذام والحصبة والملاريا والانفلونزا، هي الأداة الأكثر فتكًا بالناس، لتواترها الشديد وانتظام وقوعها

وكانت جوائح الأوبئة كالطاعون والكوليرا والجدري والجذام والحصبة والملاريا والانفلونزا، هي الأداة الأكثر فتكًا بالناس، لتواترها الشديد وانتظام وقوعها. وهذه الأوبئة رُغم آثارها الكارثية على مختلف الأصعدة، إلا أنها الأقل اهتمامًا بالتأريخ والدراسة، لذلك أحاول في هذا المقال تتبع أبرز ما عرفته البلاد من أوبئة كالطاعون، مُبينًا أن ما نمرُ به من بلاء حديث فَرَضَ علينا لزوم منازلنا واعتزال مشاغلنا تجنبًا للعدوى إنما هو أمرٌ مألوف، وبلاءٌ عرفنا منه في التاريخ ألوانًا وصنوفًا، وهو كسابقه سُرعان ما سيُرفع عنا، وستمضي عجلة الحياة إلى أجلها المقدور.

طاعون عمواس وما بعده

ترك مرض الطاعون أثره في المصنفات العربية والإسلامية، وأصبح جزءًا من تراجم المؤرخين والفقهاء، لكثرة وقوعه وعظم أثره، فلا يكاد كتابٌ في السير والتراجم أو تاريخ المدن والبلاد، يخلو من إشارة للطاعون. حتى أن بعض المصادر كانت تُشير إليه بـ "الفناء" أو الوباء"، لشدّة فتكه بالبشر1، وقد صنفت عشرات المؤلفات والكتب عربيًا عن الطاعون والوباء، ولعل من أقدمها: "كتاب الطواعين" للحافظ أبي بكر بن أبي الدنيا، المتوفي سنة 281هـ.

وتشير المصادر إلى أن أشهر طاعون أصاب بلاد الشام، كان طاعون عمواس في فلسطين (سنة 18هـ -638م)، الذي أدى لموت عددٍ كبيرٍ من الصحابة رضوان الله عليهم، على رأسهم أبو عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل والفضل بن العباس وسهيل بن عمرو، وشرحبيل بن حسَنَةَ رضي الله عنهم، وتذكر المصادر بأن عدد الموتى الإجمالي بلغ ما يقارب 25 ألف نسمة. 2 

وقد تركزت أخبار الطاعون في بلاد الشام وفلسطين بدرجة أولى أيام الدولة الأموية (662-750م)، حتى أن بعض المؤرخين أحصى عددها وخلص للقول بأنها كانت لا تغيب أكثر من أربع سنوات ونصف، وقد أفنت خلقًا كثيرًا من الناس، وخربت بلادًا كانت عامرة. وقد ذكر أبو منصور الثعالبي (ت429هـ) ذلك بقوله: "لم تزل الشام كثيرة الطواعين حتى صارت تواريخ..."3 وأرخ لذلك أيضًا ابن حجر العسقلاني بقوله: "إن الطواعين أيام بني أمية كانت لا تنقطع بالشام".4 

تركزت أخبار الطاعون في بلاد الشام وفلسطين بدرجة أولى أيام الدولة الأموية، حتى أن بعض المؤرخين خلص للقول بأنها كانت لا تغيب أكثر من أربع سنوات ونصف، وقد أفنت خلقًا كثيرًا من الناس، وخربت بلادًا كانت عامرة

وبحسب ذات المصادر، فقد قل حدوث الطاعون في بلادنا أيام الدولة العباسية مُقارنة بما كان عليه الحال قبل ذلك، حتى أن أحد أمراء العباسيين في الشام، خطب فقال: "احمدوا الله الذي رفع عنكم الطاعون منذ ولينا عليكم". فقام بعض من له جرأة وقال: إن الله أعدل من أن يجمعكم علينا والطاعون".5 

اقرأ/ي أيضًا: الكرنتينا: تاريخ الحجر الصحي في فلسطين

وكان من أشدّ ما بُليت به البلاد توافق الحملات الصليبية ووباء الطاعون على فلسطين والشام، وذلك من أواخر القرن الحادي عشر حتى الثلث الأخير من القرن الثالث عشر (1096-1291)، فاجتمع على البلاد آفتين معًا، إذ توالت السنوات بوقوع الطاعون والأوبئة، فنجده تارة يفتك بالصليبيين كما في الطاعون الذي فتك بجيوشهم التي حاصرت مدينة أنطاكية ثم احتلتها خلال عامي 1097م - 1098م،7  ونجده تارة أخرى يفتك بأهل البلاد المُحاصرين كما في الطاعون الذي بدأ بدمشق سنة 1153م ، وكذلك وباء العام 1190 الذي فتك بجيش المسلمين المتوجه إلى عكا. 8

الفناء الكبير

تشير المصادر التاريخية إلى أن الطاعون لم يتوقف عن غزو بلاد الشام، وظل يُطل عليها بين الفينة والأخرى، لكنه صار أشد فتكًا وأكثر قسوة في العهد المملوكي (1250-1517)، ولا تنفك تلك المصادر تتبع أخباره وذكر ما أفنى من الخلائق، وذكر القرى والضياع التي خربت بسببه ولم تُعمر بعد ذلك. حتى أنه يصح القول: "بأن البلاد في العهد المملوكي ما عرفت الهناء والرخاء وظل شبح الموت يُلاحقها بفعل الأوبئة والطواعين".

ولعل واحدًا من أشهر ما فتك بالعالم عمومًا في تلك الفترة هو طاعون القرن الرابع عشر(1348م) الذي عرف عند المسلمين بالفناء الكبير أو الطاعون الأعظم، وقد عرف في أوروبا باسم الطاعون الأسود، وكان وقعه في فلسطين عظيمًا، وأول ظهوره في مدينة غزة، ومنها انتقل إلى بقية الشام، وقد وصفه المقريزي بقوله: "وباد أهل الغور وسواحل عكا وصفد، وبلاد القدس ونابلس والكرك، وعربان البوادي وسكان الجبال والضياع، ولم يبق في بلدة جنين، سوى عجوز واحدة خرجت منها فارَّة، ولم يبق بمدينة لُدّ أحد، ولا بالرملة، وصارت الخانات وغيرها ملآنة بجيف الموتى..."

الطاعون الأعظم كان وقعه في فلسطين عظيمًا، وأول ظهوره في غزة ومنها انتقل إلى بقية الشام، وعلى إثره صارت الخانات وغيرها مليئة بجيف الموتى

يواصل المقريزي سرد ألم الفاجعة بقوله: "وشمل الموت أهل الضياع بغزة، وكان أواخر وقت حراثة الأرض، فكان الرجل يوجد ميتًا والمحراث في يده، ويوجد آخر قد مات وفي يده ما يبذره، وماتت أبقارهم، وخرج رجل بعشرين نفرًا لإصلاح أرضه، فماتوا واحدًا بعد واحد، وهو يراهم يتساقطون قدامه، ودخل ستة نفر لسرقة دار بغزة فأخذوا ما في الدار ليخرجوا به فماتوا كلهم".10

اقرأ/ي أيضًا: إلى أي ساعة دوام الملائكة

وفي هذا الطاعون المُريع هلكت الخلائق، وخربت البلاد، وفنيت الحيوانات، وفني سكان قبرص كلهم تقريبًا، وكانت السفن تجري في البحر الأبيض المتوسط ولا أحياء على متنها، وقدر عدد الذين توفوا بسببه في الشرق بأكثر من 32 مليون نسمة، وفي أوروبا بحوالي 25 مليون نسمة. 11

ثم توالت بعد هذا الفناء العظيم طواعين كثيرة، شملت القدس وعموم مدن فلسطين والشام، كان منها طواعين الأعوام: (1382م، 1385م، 1388م، 1392م، 1402م،1410م، 1416م، 1422م، 1428-1430م، 1434، 1441م، 1459م، 1469م، 1476م، 1492م).12

جُبَّةُ الطاعون

وخلال الحكم العثماني لفلسطين والشام، لم تتوقف الأوبئة والطواعين، حيث انتشر الطاعون في بيت المقدس وجوارها عدّة مرات ومن ذلك طواعين الأعوام: (1562، 1573-1574، 1579، 1587، 1619، 1661، 1785-1786). وتذكر المصادر، الطاعون الذي أصاب يافا أثناء حملة نابليون لاحتلالها سنة 1799، حيث قتل حاميتها وأعدم الأسرى من الجنود الذين استسلموا له، وترك جُثثهم وهي بالمئات من غير دفن مما أدى لتفشي وباء الطاعون في المدينة وما حولها.

وفي سنة 1812م انتشر طاعون شديد في الأستانة، ثُمّ نُقل بِجُبّة جوخ أرسلت كهدية إلى يهودي كان مقيمًا في مدينة عكا، فانتشر الوباء فيها بشكل مُروّع، ثم انتقل إلى يافا والقدس. واستمر لسنة 1814م، ومن جملة من مات به الراهب الإسباني فرانسيسكو لوبيز الذي كان أشهر طبيب فرنسيسكاني في فلسطين آنذاك، حيث وصل إليها سنة 1788م وعالج في من عالج أحمد باشا الجزار، والرحالة الألماني أولريش زيتش، وكانت وفاته بالطاعون في القدس سنة 1813.  13

كوليرا وملاريا

ليس الطاعون وحده من فتك بفلسطين وسكانها، فقد بليت البلاد بجملة من الأوبئة المعدية منها: الكوليرا (الهواء الأصفر)، الملاريا، الجذام (داء الأسد)، التيفوئيد، الجدري، السل، الحصبة، الحُمى المالطية، والانفلونزا الإسبانية.

تتبع المؤرخ المقدسي بشير بركات بعض هذه الأمراض وذكر أشهر تواريخ حدوثها في فلسطين. وكانت أكثر من ثلاثين مرة، وفي كل منها كانت هناك خسائر في الأرواح. 14 وعلى الرغم من التحولات الطبية المهمة التي بدأت تتشكل بعد التحرير الصلاحي للبلاد حتى نهاية الدولة العثمانية، والاهتمام بالطب والعلاج وإنشاء المستشفيات والمحاجر الصحية (الكرنتينا)، إلا أن كل ذلك لم يحل دون الموت بفعل الأوبئة التي كانت شديدة الهجوم والإقبال على البلاد، لعوامل كثيرة أسهب المؤرخون في الحديث عنها. 15

ويمكننا القول إنه بالرغم من تميز فلسطين بصحة هوائها ولطف مناخها، وغزارة مياهها، وجمال أشجارها وبساتينها، إلا أن الأوبئة والطواعين التي حلت بها أسهمت في التأثير على تركيبة السكان النوعية والعمرية والعرقية، وتسببت في خراب قرى وبلدات كثيرة، جاعلة إياها خرائب دارسة، وحولت حياة السكان إلى جحيم لا يكاد يُحتمل. لكنها ومع كل ذلك لم تستطع إنهاء الحياة في هذه البلاد ولا إفناء أهلها، فظلت البلاد قادرة على الحياة وإعادة تجددها من جديد.

____________________________________

1. تاريخ الكوارث في بيت المقدس، بشيرعبد الغني بركات. دار المقتبس2016،  ص9

2. انظر:  وباء الطاعون في الإسلام وإصابة المشهورون به حتى نهايةٌ العصر الأموي. د. زين العابدين موسى الجعفر، وآخرون. مجلة جامعة كربلاء العلمية – المجلد الثامن- العدد الأول / أنساني 2010)

3. ثمار القلوب في المضاف والمنسوب، تأليف أبو منصور عبد الملك الثعالبي المتوفي سنة 429ه_، دار الكتب العالمية - لبنان 1971، ص: 192 

4. بذل الماعون في فضل الطاعون، الحافظ أحمد بن حجر العسقلاني(773-852هـ)،تحقيق أحمد عصام الكاتب، دار العاصمة- الرياض، ص: 363

5. بذل الماعون في فضل الطاعون (مصدر سابق) ص: 364 

6. بذل الماعون في فضل الطاعون (مصدر سابق) ص: 367

7. تاريخ الحروب الصليبية، تأليف وليم الصوري- ترجمة د.حسن حبشي، الهيئة المصرية العامة للكتاب1992، الجزء الاول ص: 332

8. البداية والنهاية،الامام الحافظ ابو الفداء إسماعيل ابن كثير، دار ابن كثير- بيروت، الجزء:12، الصفحات:  158-406.

9. السلوك لمعرفة دول الملوك، تقي الدين أبو العباس المقريزي (ت 845هـ)، دار الكتب العلمية - بيروت 1997، الجزء:  4،ص82

10. السلوك لمعرفة دول الملوك، (مصدر سابق)

11. تاريخ الكوارث في بيت المقدس (مصدر سبق) ص: 12

12. الأوبئة (الطواعين) وآثارها الاجتماعية في بلاد الشام في عصر المماليك الجراكسة (1382-١٥١٦ م - ٩٢٢ ه -٧٨٤)، مبارك محمد الطراونة المجلة الاردنية للتاريخ والاثار- المجلد 4، العدد3 2010م. // الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل، قاضي القضاة مجير الدين الحنبلي، مكتبة المحتسب 1973، الجزء: 2، الصفحات: 360- 363.

13. بشير بركات

14. تاريخ الكوارث في بيت المقدس (مصدر سابق)، الصفحات: 29-60

15. انظر كتاب: الموت في مصر والشام (1250-1517)، د. بلقاسم الطبابي، جزء 1/2 ، الدار التونسية للكتاب 2014.