كان الناس يهربون خارج دوار المنارة، العمارات تفرغ والتجار يغلقون المحلات بسرعة، وكل السيارات تغادر، والأخبار تقول أن الجيش الاسرائيلي قرر أن يرد بقوةٍ في رام الله في تشرين أول/أكتوبر 2001
في الطريق رن هاتف باسم، فأوقف السيارة وبدأ يبكي، لقد قصفوا أبراج الإرسال واختفى صوت فلسطين عن الأثير
بالصدفة، التقيت -عقب قصفٍ ما- بالزميلين باسم أبو سمية ومحمود أبو الهيجا في سيارة لهيئة الإذاعة والتلفزيون وعرضا عليَّ "توصيلة"، وفي الطريق رن هاتف باسم، فأوقف السيارة وبدأ يبكي، لقد قصفوا أبراج الإرسال واختفى صوت فلسطين عن الأثير. وصار مطلوبًا خلق إذاعةٍ "أرضيةٍ" فورًا حتى يبقى صوت فلسطين على الهواء.
ما العمل؟
رجل الاعمال المعروف الحج البكري -صاحب إذاعة أجيال- تبرع بإذاعته الخاصة، الزملاء هناك تركوا أبواب الإذاعة مفتوحة وغادروا، وهم يعرفون أن آخرين سيأتون بعد قليل. صعدت مع باسم ومحمود إلى الطابق السادس، لا عيادات ولا متاجر ولا شركات، فقط صوت مروحياتٍ عسكريةٍ إسرائيليةٍ وطائرات درون تحلق فوق المكان، انشغل باسم ومحمود في ترتيب هندسة البث واستدعاء الزملاء والتحفظ على مكان الإذاعة، وفجأة وصل الذي لا يُنسى صوته: يوسف القزاز.
اقرأ/ي أيضًا: الحنين إلى مايكروفون الانتفاضة
أنا مرتبكٌ بالكامل، وفكري حمودة المهندس يحاول إيجاد معادلة بث وموجات "أف أم"، باسم يرد على الهاتف، والطائرة تأتي من فوق مستوطنة "بزغوت" إلى منطقة الحسبة، تحلق فوق مقاتلين يطلقون الرصاص في الهواء تهدد وتستطلع وتغادر.
والمؤلم في تلك اللحظات أن يوسف وباسم ومحمود صعقتهم فكرة أن لا صوت لفلسطين على الأثير الآن، رام الله "تسقط"، منظمة التحرير ومشروعها السياسي والنضالي والعرفاتي تتم تصفيته، والمزحة الثقيلة التي تسلينا بها آنذاك، كي لا نعترف بالخوف، كانت أن "ثلة من المجانين الصحفيين استشهدوا في قصف إذاعةٍ محليةٍ برام الله".
وفجأة دخل يوسف استوديو إذاعة أجيال، وضع السماعات وعدَّل الميكرفون، وحاول أن يخفف من ارتباكي بحركاتٍ بهلوانيةٍ كي أضحك، وبعد أن فهم لعبة هندسية ما، من المهندس حمودة عبر الهاتف، قال كالبحر:
"هنا صوت فلسطين، صوت الثورة الفلسطينية، صوت منظمة التحرير الفلسطينية".
ماذا أُقدّم أنا ليوسف؟ فتشت عن "كمبيوتر" لمتابعة الأخبار، ومن النافذة التقطتُّ خبرًا من مخيم قدورة، سيارات الإسعاف بحاجةٍ إلى شارعٍ خالٍ من الجمهور وسط المخيم، كي توصل الجرحى بسرعةٍ إلى المستشفى، قلت ذلك ليوسف وحول الفكرة إلى خبر وإرشاداتٍ إعلاميةٍ للجمهور.
وفي جهاز راديو صغير وجدناه في الإذاعة سمعت المذيع الاسرائيلي يعقوب عزرا يقول: "قبل لحظات دخلت إذاعة صوت فلسطين المعركة وهم يصدرون توجيهاتٍ لسيارات الإسعاف. قلت ذلك لأبو تميم فانفعل أكثر وقاتل وضحك واستشرس.
كانت كلمات يوسف لا تنتهي، تصدر بهدوء مقاتل، وضمن متواليةٍ صوتيةٍ مذهلةٍ يُعدد فيها "عناصر قوة الفلسطيني" وعوامل "ضعف الإسرائيلي"!
وفي المواجهة، تأتي طاقة غير معروفةٍ للفلسطينيين، تُكبر القلوب وتُوسع الشرايين، وتطلق التضامنيات ويتبرع الناس بأغلى ما يملكون، حتى لو كان التبرع بإذاعةٍ كاملة، وهو ما حدث مع الزميل إبراهيم قنداح الذي تبرع لأشهر بمقر إذاعته "الجزيرة" كي تكون مقرًا لإذاعة صوت فلسطين بعد تدمير مقر هيئة الإذاعة والتلفزيون.
وصل وزير الإعلام آنذاك ياسر عبد ربه، ولحقت به الزميلة شيرين أبو عاقلة مع كاميرا الجزيرة، استعجل الخروج في البث المباشر أكثر من الصحفيين، وفجأة رأيته يبرد تمامًا أمام الكاميرا، ويقول أن كل شيء في رام الله تحت السيطرة، وأن فلسطين التي على كل شاشات العالم تقصف هي الآن بخير! ومدنها في غزة والضفة قادرة على الحياة، وأنها اعتادت على "المزحات العسكرية ثقيلة الظل من أيام بيروت"، وأن السياسة الفلسطينية حيةٌ ودبلوماسيتها تتواصل مع العالم كي "تضبط تل أبيب أعصابها ولا تقصف رام الله".
حكومة الاحتلال قررت قصف وتدمير بنك أهدافٍ كبيرٍ جدًا، ويوسف داخل الاستوديو بلا فواصل موسيقية، وأنا أفتش في ديوان شعر لأبو القاسم الشابي كان متروكًا على أحد رفوف الإذاعة عن قصائد بالإمكان أن يقرأها أبو تميم على الهواء، أعرضها له، فيوافق مرة ويضع الديوان جانبًا مرة أخرى، وأسمعه يقول: "فلا بد لليل أن ينجلي". هكذا. أتذكرون صوت يوسف؟ أتذكرون.
الراحل صائب نصار بلباسه العسكري، أحضر "خبزًا ومارتديلا وكوكاكولا" من مونة العسكر للصحفيين في الإذاعة الجديدة
الزائر الجديد على الطابق السادس كان الراحل صائب نصار بلباسه العسكري، أحضر "خبزًا ومارتديلا وكوكاكولا" من مونة العسكر للصحفيين في الإذاعة الجديدة، وطلب منا الانتباه وناقش معنا أمر المروحية التي تحوم والمواقع المحتملة في بنك الأهداف الإسرائيلية، وقال لنا: "ديروا بالكو" ثم غادر.
مر الوقت وبدأت رعشة الخوف تقل، طنين الطائرة صار مألوفًا، ورائحة الموت صارت "ظريفة"، وصوت يوسف يميل ويهبط ويعلو، وقرر وزير الإعلام أن نؤجل رسالة زميلنا سالم أبو صالح "لأن صوته حربيٌ جدًا، وقد ينفعل ويعلن الحرب على إسرائيل وأميركا على الهواء مباشرة".
جاء وقت الجريدة، وكان علي أن اغادر الإذاعة "السرية جدًا"، وعلى الدرج بدأت أرى صاعدين جدد، مشيت من المنارة باتجاه حي الجنان في مدينة البيرة كي ألتحق بالشفت المسائي في جريدة الحياة الجديدة، واستعدت هدوئي بعد أن سمعت على الهاتف صوت ابن أخي محمد، الصغير آنذاك، والضخم والمهندس والمسرحي حاليًا، وهو يصف حرب الطائرات في رام الله والبيرة بالقول المتفاجئ: "قصفوا.. قصفوا.. وبعديها طارت العصافير".
كل عام و"صوت فلسطين" بخير، وليس 25 عامًا على التأسيس، بل 93 سنة من الإرسال.
اقرأ/ي أيضًا:
انتفاضات الفلسطينيين بين الوعي الفطري والتاريخي