عند مدخل بيت لحم الشمالي من القدس، أقام يعقوب نصبًا تذكاريًا على قبر زوجته راحيل التي توفيت أثناء ولادة طفلها بنيامين. يتمتع قبر راحيل بأهمية دينية وتاريخية وأثرية حيث يقصده الحجاج من مختلف الديانات السماوية الثلاث وقد منعت القوات الإسرائيلية منذ بدء الانتفاضة الثانية/الأقصى دخول الحجاج غير اليهود إلى الموقع كخطوة أولى لضم الموقع إلى ما يسمى بلدية القدس.
وبحسب اتفاقية أوسلو2 الموقعة في العام 1995 تم تصنيف منطقة قبر راحيل كمنطقة "ج" وهي منطقة تقع بالكامل تحت السيطرة الإسرائيلية مع السماح للفلسطينيين باستعمال الطريق المحاذي لمنطقة القبر ودخول القبر لأغراض دينية إلى حين إتمام مفاوضات الحل النهائي وبموافقة إسرائيلية.
مناطق "ج/C" في الضفة الغربية المحتلة، هي مناطق خاضعة بالكامل لسيطرة إسرائيل وتبلغ 65% من أراضي الضفة
لم نكن في طفولتنا عندما نشاهد الدوريات المشتركة للسلطة الفلسطينية والاحتلال داخل بيت لحم نعرف ما هو الحل النهائي، ولا كان لدينا كمبيوتر لنرى اتفاقية أوسلو فقد كنا نعرف تمامًا أن طريقنا إلى المدرسة يمر من هنا، من أمام مبنى صغير مربع الشكل يعلوه قبة بيضاء وهو جزء من مقبرة إسلامية، حياتنا كانت تبدأ صباحًا من أمام هذا المكان وعند العودة من المدرسة أيضًا. ولا نعلم ماذا يدور هناك. كنا نرى جنديًا أو اثنين يقفان أمام الباب ونقول لهما "شالوم" ونمر وفي إحدى الأيام عاد أخي الصغير من المدرسة ودخل إلى البيت وسأل أبي ماذا يعني أن يرفع لك شخص كف يده ويرفع الإصبع الأوسط ؟ فقال له والدي من عمل لك هذه الإشارة؟ فقال إنه جندي يهودي عند قبة راحيل. فأجابه أبي هذا يعني خفاش وهي سلام باللغة العبرية أو شالوم. فأصبحت كل ما أمر من هناك أنا أو أصحابي نقف أمام الجنود ونشير لهم بالإصبع الأوسط ونقول لهم "شالوم".
بعد فترة من الزمان بدأ الجنود يمنعونا من المرور من الشارع الملاصق للقبر وأمرونا أن نمر من الشارع المقابل، ثم بعدها منعوا السيارات أيضًا، ثم بدأو بوضع سواتر أسمنتية ولا نعلم كيف ومتى وجدنا القبر محاطا بجدار قصير، ليتحول إلى جدار أطول، ثم تحاط المنطقة كلها بجدار بارتفاع تسعة أمتار. كان ذلك في فترة هدوء نسبي لانتفاضة الأقصى عام 2003/2004.
أصبح هذا المكان عبارة عن ثكنة عسكرية إسرائيلية ومنطقة اشتباك مستمرة بين الشبان وقوات الاحتلال. ومكان القبة الجغرافي الذي يقع بين مخيمين جعله نقطة ملتهبة دائمًا، فكما قال غسان كنفاني "أنت دائمًا تمرّ بأعجوبة بين طلقتين، وهذا ما كان، كما قلت لك، زمن الاشتباك المستمر".
كنا ننتظر كل يوم على مدار السنوات العشر السابقة أي لحظة تصل فيها مظاهرة من محافظة بيت لحم ولا يهم ما هو شعارها لنخرج معها ونشتبك بالحجارة مع قوات الاحتلال بعد أن يعود أصحاب المظاهرة إلى الخلف. وفي أوقات الفراغ كنا نجهز أسلحتنا المحلية مثل الملتوف أو المقلاع وتطورت إلى الألعاب النارية ثم "الكواع"، ولا نعلم إلى أين سوف تتطور وسائل النضال فنحن نعلم أننا نعيش في زمن الاشتباك.
وفي أحد الأيام كانت المظاهرة قد وصلت إلى مدخل مخيمنا، العزة/بيت جبرين، وبعدها بأمتار ستكون قبة راحيل مكان انتهاء المظاهرة فخرجنا بين الجموع القليلة وكنا قد خرجنا بكل عتادنا وكل أطفال المخيم معنا. وقد بدأ الشبان والرجال بالصراخ علينا وملاحقتنا لا نعرف لماذا فقد كنا نسمعهم يقولون لنا "نون فيلونس" "لاعنفية" "سلمية" ونحن لم نكن نريد إفساد حفلتهم، ولكننا لا نعرف ما معنى سلمية فنحن نعتبر أن الاشتباك مع المحتل بكل الأشكال هو سلمية. فنحن داخل المخيم نمر بين رصاصتين.
هي منطقة المواجهة المستمرة في محافظة بيت لحم. وهي المكان الذي فقدنا فيه أطفالا من المخيم شهداء ومقاومين من المحافظة ارتقوا شهداء في تلك المنطقة. هناك سالت دماء وهناك من فقدوا عيونهم وأقدامهم وأطرافهم. هناك لعبنا وكبرنا وهناك ودعنا شهداءنا وودعنا جيلًا كاملًا من آخر أجيال النكبة تحت التراب ووضعنا معهم حكايتهم عن الوطن وعن العودة وهناك داخل المقبرة الإسلامية دفنا مفاتيح العودة مع أجدادنا.
ومازال قبر راحيل أو كما ندعوه أحيانًا "مسجد بلال بن رباح" مكان الاشتباك المستمر في فترات الهدوء وفي فترات السلام أو غيرها، بقي مكان الاشتباك هناك في بعض الأحيان من داخل مخيم عايدة وفي أحيان أخرى من مخيم العزة.
اقرأ/ي أيضًا: