05-نوفمبر-2024
المجاعة في قطاع غزة.jpg

(Getty)

تتحول المجاعة في غزة إلى سجال إعلامي ونقاش سياسي، بينما تأخذ حصتها من أجساد أهالي قطاع غزة، إذ صارت المجاعة عنوانًا للحرب على غزة، وبينما يُناقش في العالم تطبيق "خطة الجنرالات"، والمطالبات الأميركية بزيادة حصة شاحنات الأغذية إلى قطاع غزة، فإن الواقع هو جوع متفاقم، وصراع يومي للحصول على حصة من الطعام، على وقع القصف المتواصل.

يترقب العالم الانتخابات الأميركية، وفي إسرائيل يدور نقاش حول رسالة وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن ووزير الدفاع الأميركي لويد أوستن، التي تطالب "إسرائيل تحسين تسليم المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة بشكل ملحوظ في غضون ثلاثين يومًا"، أي في الأسبوع التالي للانتخابات، لكن الجوع يستشري فعلًا في القطاع.

قال مدير عام المكتب إسماعيل الثوابتة في حديثه لـ"الترا فلسطين": إن "الاحتلال منع إدخال أكثر من رُبع مليون شاحنة مساعدات وبضائع منذ بدء حرب الإبادة الجماعية

في نفس الوقت، أعلن وزير الخارجية الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، يوم الإثنين، عن إلغاء اتفاقية تشغيل وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا" المعمول بها منذ عام 1967. يأتي هذا القرار عقب مصادقة الكنيست الأسبوع الماضي، على قانون ينص على وقف أنشطة الأونروا. وللتذكير، تعلب الأونروا الدور الأساسي في توزيع المساعدات داخل غزة.

ووفق التقرير، فإن الولايات المتحدة طلبت من إسرائيل "إدخال أكثر من 400 شاحنة يوميًا، ولكن إسرائيل لا تقترب حتى من هذا الرقم"، وقال مسؤول غربي: "إن تفسيرات إسرائيل غير مقنعة. وهناك شكوك متزايدة في أن إسرائيل تحاول الطرد الجماعي للسكان الفلسطينيين من شمال قطاع غزة".

وبينما يرى أهالي قطاع غزة واقع المجاعة في شمال وجنوبه، وبينما يتزايد التركيز على شماله، قال دبلوماسي غربي "إذا استنتج الأميركيون أن إسرائيل تحاول تنفيذ خطة الجنرالات، فإنهم سيضطرون إلى التحرك".

وحول شكل حصار قطاع غزة، فإنه وفق التقرير الإعلامية الإسرائيلية، فالحديث يدور الآن حول 3 دوائر حصار في قطاع غزة، وتطبق عليها كافة أنواع القيود. أولًا، القطاع بأكمله محاصر، فلا يدخله أو يخرج منه أحد إلا بقرار من جيش الاحتلال. ويفرض حصار آخر على كامل شمال قطاع غزة، من منطقة وادي غزة إلى الشمال، بما في ذلك مدينة غزة. وفرض جيش الاحتلال مطلع الشهر الماضي حصارًا آخر وأشد شمال قطاع غزة، في محيط مدن جباليا وبيت حانون وبيت لاهيا. ووصفه أحد مسؤولي الأمم المتحدة بأنه "حصار داخل حصار داخل حصار".

وقال مسؤول أممي: "منطقة إنسانية في غزة؟ لا يوجد شيء من هذا القبيل. كل مكان يمكن أن تشتعل فيه النيران من أي اتجاه طوال الوقت. في أوكرانيا هناك جبهة، الجبهة تتحرك، ولكن السكان لديهم الوقت للهروب من أجل الحصول على استجابة إنسانية لاحتياجاتهم. هنا، فر السكان إلى المواصي في جنوب قطاع غزة، ولكن هناك أيضًا هجمات، كل شيء مأساوي للغاية"، مضيفًا: "وتيرة تقديم المساعدات وتحويلها إلى المحتاجين بطيئة للغاية. بالمعدل الحالي، سيستغرق الأمر أربع سنوات حتى نوزع الخيام على كل من يحتاج إليها".

ولم تنعكس الكمية القليلة من المساعدات الإنسانية والبضائع التجارية التي سمحت سلطات الاحتلال الإسرائيلي بمرورها لقطاع غزة من خلال معبر كرم أبو سالم التجاري الوحيد على حياة النازحة الأربعينية أم أحمد الشنباري، التي تعيش واقعًا بائسًا مع أسرتها في ممر مدرسة بمدينة خانيونس جنوب القطاع.

تتساءل هذه المرأة الأرملة المسؤولة عن ثلاثة أبناء هم أحمد (19 عامًا) وإبراهيم (14 عامًا) ومحمود (7 أعوام): "أين هي المساعدات؟"، وتكمل بحزن يعتصر عينيها: "والله حتى الخبز مفقود".

ومنذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على القطاع عقب هجوم 7 تشرين الأول/أكتوبر من العام الماضي نزحت أم أحمد (47 عامًا) بأبنائها 8 مرات من بلدة بيت حانون في شمال القطاع حتى مدينة رفح في جنوبه.

الموت قصفًا وجوعًا

تمر على الأم الأرملة وأسرتها الأيام تلو الأيام التي لا يجدون فيها ما يأكلون، ما لم يتمكن أبناؤها من الحصول على الطعام من تكية خيرية، وقد ذهب القائمون على هذه التكايا إلى إغلاقها لعدم توفر السلع والمواد اللازمة للطهي.

"والله رأس البصل ما بقدر اشتريه"، تقسم أم أحمد، وهي تشرح باستفاضة واقعها المعيشي، وتسهب في الحديث: "كل طعامنا معلبات: بازيلاء وفاصوليا وفول، وكلها أمراض بسبب المواد الحافظة وتعرضها لأشعة الشمس لفترات طويلة على المعابر وفي الأسواق".

وحتى هذه المعلبات لم تعد متوفرة بسهولة بسبب القيود المشددة التي يفرضها الاحتلال على دخول المساعدات الإغاثية للقطاع منذ اجتياح مدينة رفح واحتلال معبر رفح البري مع مصر، والقيود المشددة التي يفرضها على معبر كرم أبو سالم التجاري الوحيد مع القطاع.

وخلال تشرين الأول/أكتوبر، خلال الأعياد اليهودية أغلق الاحتلال هذا المعبر التجاري، وشدد من القيود عليه، وتوقف دخول الشاحنات الإغاثية والتجارية، وكان لذلك انعكاسات خطيرة على واقع الغزيين، حيث اختفت السلع والبضائع، وارتفعت الأسعار بشكل تصفه أم أحمد بالجنوني.

السيدة المريضة بالسرطان، وخضعت قبل الحرب لعملية استئصال ثدي وتقتضي حالتها الصحية أن تتناول الفواكه واللحوم والخضار الطازجة، وهي شحيحة بالأسواق وأسعارها باهظة جدًا، تقول إنها و"أطفالها لم يتذوقوا هذه الأشياء منذ شهور طويلة".

وأعادت سلطات الاحتلال فتح المعبر جزئيًا، وسمحت بدخول شاحنات قليلة من المساعدات الإنسانية والبضائع التجارية، غير أن مواطنين متخصصين يصفونها، بأنها "نقطة في بحر احتياجات الناس"، علاوة على أن الاحتلال يتحكم في نوعية السلع والأصناف التي تدخل القطاع، وقد حافظت الأسعار على ارتفاعها الكبير، وسط حالة من الغضب الشديد واتهامات شعبية لمن يوصفون بـ "تجار الحرب" باستغلال واقع الحرب والحصار للتربح.

وتتخوف أم أحمد، من فصل الشتاء المفضل لديها من بين فصول السنة، لكنها تقول: "ما بتمنى يجي، ما بدنا مطر، ليس لدينا ما نواجه به البرد، لا طعام ولا أغطية (..) وحتى النار لن نجد ما نوقدها به"، وتتعاظم خشيتها من الأمراض الموسمية المصاحبة لفصل البرد والأمطار، في ظل انهيار المنظومة الصحية وأزمة الدواء في المرافق الصحية العامة والصيدليات.

أزمة خبز ودقيق

وسمح الاحتلال بإدخال شاحنات قليلة محملة بالدقيق بعد فترة طويلة تسببت في اختفائه من الأسواق وارتفاع سعره، ولم تسهم هذه الكمية في إنهاء أزمة الخبز، ولا تزال قائمة يعكسها الازدحام الشديد على مخبز وحيد يعمل في مدينة خانيونس. 

وفي الفترة الأخيرة اختفى الدقيق من الأسواق، ووصل سعر الكيس منه زنة 25 كيلوغرامًا إلى أكثر من 250 شيكلًا، وتقول أم خالد المصري لـ "الترا فلسطين"، إن زوجها بحث عن كيس ليومين متواصلين في كل مكان بمدينة خانيونس، ولم يجد أي شيء، وتستدرك: "ولو وجده بهذا السعر، فلن نستطيع شراءه".

وقبيل إغلاق معبر كرم أبو سالم التجاري، كان سعر كيس الدقيق لا يزيد عن عشر شواكل، لكن بسبب الإغلاق وعدم وصوله لوكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، لتوزيعه بالمجان ارتفعت الأسعار على هذا النحو.

وتقول أم خالد، إنها وأسرتها (5 أفراد) يعتاشون على "ساندويشات" مما يتوفر في البيت من معلبات توشك على النفاد، ولا تعلم كيف ستتدبر أمورها بعد نفاذها ما لم يدخل الدقيق والمساعدات الإنسانية والبضائع بكميات وأسعار مناسبة. 

وبعد ساعات من وقوفه في صف طويل فشل زوجها في الحصول على ربطة خبز، واضطر إلى شرائها بعشرين شيكلًا من فتى يصطف مع آخرين في صف المخبز منذ الفجر لشراء الربطة بثلاث شواكل وإعادة بيعها.

مخاطرة من أجل الطعام

ويبدو واقع الحال في نصف القطاع الشمالي أشد سوءًا من جنوبه، إذ استخدام الاحتلال سلاح التجويع والتعطيش بشكلٍ أكثر وضوحَا بهدف "تفريغ الشمال من السكان".

ويقول محمد عبد ربه، إنه اضطر إلى المخاطرة بنفسه بالتسلل عبر طرق ملتوية بين الأزقة والشوارع الضيقة للوصول إلى منزل شقيقته في شارع عبد ربه ببلدة جباليا، وعاد إلى أسرته ببعض الطعام.

كانت مغامرة محفوفة بالكثير من المخاطر، كما يُقر محمد (44 عامًا)، ولكن لم يكن لديه خيار آخر وأطفاله الخمسة يتضورون جوعاً، وقد اضطر للنزوح من منزله في وسط مخيم جباليا مع بدايات العملية الإسرائيلية البرية المستمرة منذ السادس من أكتوبر الجاري.

لكن الطعام الذي وفره محمد يكفي لبضعة أيام فقط، وسيواجه وأسرته تحديات كبيرة في الحصول على غيره، في ظل قيود خانقة تفرضها قوات الاحتلال على مخيم جباليا وشمال القطاع، ويقول لـ "الترا فلسطين": "الموت في الشمال يداهمنا في كل لحظة وبوسائل مختلفة، بالقتل والجوع والتعطيش.. المياه لا تتوفر بسهولة".

ووفًقا لبرنامج الأغذية العالمي، "يعد الدقيق والمعلبات المواد الغذائية الوحيدة المتاحة في أسواق شمال القطاع"، وتعود هذه البيانات إلى ما قبل العملية العسكرية ضد جباليا التي تدخل شهرها الثاني هذه الأيام، وتشير إلى المؤشرات إلى تراجع حاد في حضورها.

وما يتوفر في مدينة غزة وشمال القطاع من كميات شحيحة من الخضار، وأصناف قليلة من السلع والبضائع، وعلى فترات متباعدة، تباع بأسعار، يصفها محمد بـ"جنونية" بالنسبة للمتواجدين في شمال القطاع، الذين يواجهون الموت والحصار، وفقدوا أعمالهم ومصادر رزقهم ومدخراتهم خلال الحرب المستمرة للعام الثاني على التوالي.

تجويع بهدف التهجير

ويقول مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا)، إن وصول المساعدات الإنسانية إلى القطاع يواجه عراقيل كبيرة، خاصة بالنسبة لوصولها لشمال القطاع. وبحسب أوتشا فإن "هناك حاجة ماسة إلى فتح ممرات آمنة ومستدامة للوصول إلى شمال غزة والمناطق الأخرى في القطاع"، مشددًا على أن "المعابر المحدودة وغير الموثوقة تعيق عمليات الإغاثة الإنسانية، وتجعلها غير فعالة".

وبفعل ما يصفها المكتب الإعلامي الحكومي بـ "سياسة التجويع" اختفت غالبية السلع والبضائع من الأسواق في جنوب القطاع وشماله، وارتفعت الأسعار على نحو كبير لا يناسب غالبية الغزيين ممن فتكت بهم الحرب.

وقال مدير عام المكتب إسماعيل الثوابتة في حديثه لـ"الترا فلسطين": إن "الاحتلال منع إدخال أكثر من رُبع مليون شاحنة مساعدات وبضائع منذ بدء حرب الإبادة الجماعية، في إطار تعزيز سياسة التجويع واستخدامها كسلاح حرب ضد المدنيين وضد الأطفال، خصوصًا من خلال منع إدخال الغذاء وحليب الأطفال والمكملات الغذائية".

ويؤكد الثوابتة، أن الاحتلال يستخدم جريمة الحصار كوسيلة للضغط السياسي والعقاب الجماعي على السكان المدنيين، الأمر الذي من شأنه تعميق المعاناة، ويزيد من التحديات الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية، ويعزز الحاجة الملحة لتدخل دولي أكثر جدية للتوصل إلى حلول تنهي هذه الأزمة.

وفي تقرير حديث لها تقول أونروا: "يعاني أكثر من مليون و800 ألف شخص في جميع أنحاء القطاع من مستويات عالية من انعدام الأمن الغذائي الحاد، المصنف في المرحلة الثالثة من التصنيف أزمة أو أعلى"، وتشير إلى أن "سوء التغذية الحاد أعلى بعشر مرات؛ مما كان عليه قبل الحرب".

ويقدر رئيس الهيئة الدولية لدعم حقوق الشعب الفلسطيني، صلاح عبد العاطي، أن الإمدادات الإنسانية التي دخلت القطاع منذ اندلاع الحرب لا تزيد عن 18% من احتياجات المدنيين، ويؤكد أن إسرائيل تستخدم أسلوب "التقطير" بدخول هذه الإمدادات بهدف الضغط على الحاضنة الشعبية للمقاومة.

وقال لـ "الترا فلسطين"، إن لسلاح التجويع والتعطيش ضحايا كما لباقي الأسلحة المحرمة والفتاكة التي يستخدمها الاحتلال، ويتسبب ذلك في انتشار الكثير من الأمراض والأوبئة خاصة في أوساط الفئات الهشة وذوي المناعة الضعيفة، وقد رصدت الهيئة استشهاد 600 فلسطيني من الأطفال والحوامل والمسنين والمرضى جراء سوء التغذية والمجاعة.

وبحسب عبد العاطي، فإن الاحتلال يخلق في القطاع، خاصة في شماله، بيئة طاردة للسكان، ولا يكتفي في سبيل تحقيق ذلك بالمجازر المروعة، وإنما بتعمد تهيئة الظروف أمام انتشار الأمراض من خلال التجويع وإخراج المستشفيات عن الخدمة وعرقلة دخول الأدوية والطعام والاحتياجات الأساسية.

في تحديث "أوتشا" الأخير، قيل إنه منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر 2024، فقد برنامج الأغذية العالمي، مثله كمثل الشركاء الآخرين، إمكانية الوصول إلى مواقع التغذية السبعة التي كانت نشطة في محافظة شمال غزة بين 1 و7 أكتوبر/تشرين الأول/، ولم يتم توزيع حصص طارئة من المكملات الغذائية القائمة على الدهون.

واعتبارًا من 28 تشرين الأول/أكتوبر، ظل 12 مخبزًا من أصل 19 مخبزًا يدعمها برنامج الأغذية العالمي يعمل في القطاع، أربعة في مدينة غزة، وسبعة في دير البلح وواحد في خانيونس. ولا يزال مخبزان في محافظة شمال غزة وخمسة في رفح مغلقين بسبب الحرب. 

رئيس الهيئة الدولية لدعم حقوق الشعب الفلسطيني: رصدنا استشهاد 600 فلسطيني من الأطفال والحوامل والمسنين والمرضى جراء سوء التغذية والمجاعة

وبحلول الأسبوع الثالث من شهر تشرين الأول/أكتوبر، تم توزيع ما يقرب من 450 ألف وجبة مطبوخة أُعِدَّت في حوالي 140 مطبخًا يوميًا على الأسر في مختلف أنحاء القطاع. وهذا أقل بنحو 150 ألف وجبة عن أواخر أيلول/سبتمبر بسبب تناقص الإمدادات. واضطرت بعض المطابخ إلى الإغلاق بسبب تصاعد الحرب، وبالنسبة للمطابخ التي ظلت تعمل، كان على الشركاء تعديل محتوى الوجبات للتعامل مع نقص الإمدادات. وفي محافظة شمال غزة، عُلِّق عمل جميع المطابخ الثمانية التي كانت تعمل حتى نهاية أيلول/سبتمبر، أو أصبحت غير قابلة للوصول إليها بسبب الحرب المستمرة.

وفي الفترة من 1 إلى 26 تشرين الأول/أكتوبر، تلقى حوالي 120 ألف شخص في مدينة غزة طردًا غذائيًا واحدًا على الأقل، بينما تلقى البعض الآخر كيسًا واحدًا من دقيق القمح يزن 25 كيلوغرامًا.