قد يخدم المعلم أو المعلمة ما يزيد عن عشر سنوات متفانيًا ومقدّمًا أعلى درجات إبداعه، ثم فجأة يأتي للدوام صباح يوم أغبر ليجد كتاب فصله وإنهاء خدماته دون سابق إنذار أو أيّة إشارة على هذه النيّة المبيتة، فجأة كلعبة الشدّة الباصرة، تبصر معه ويعلن خسارته، فجأة يتم إقصاؤه بطريقة وحشية عن تلاميذه.
الحديث عن المدارس الخاصّة ليس معممًا، ودائمًا لا بد من بعض الاستثناءات
هذا المربي والقدوة والمثل الأعلى في مدرسته، يجد نفسه بين عشية وضحاها مطروحًا في بيته ومتحوّلًا من فاعل مرفوع الرأس إلى ممنوع من الصرف ومواصلة دوره في الحياة، أمسى الأستاذ فلان وأصبح فلان دون أستاذ. كان يتدبّر أمره براتب مسحوق، فأصبح لا يدري كيف سيواجه نهاية الشهر دون أن يعانق راتبه الذي بالكاد يسدّ رمق حياته البائسة. كيف سيدفع أجرة البيت وفواتير الماء والكهرباء، ومصروف جيب أبنائه؟
سيلعب هذا المعلم، الباصرة مع زوجته محاولًا نسيان مأساته ولو لبعض الوقت. وتضرب الأسئلة الجنونية في رأسه: ما الذي جرى؟ هل ثبت لمالك المدرسة فشلي هكذا فجأة، لم لا أخضع لتقييم لجنة أكاديمية مختصة؟ هل جاءته وشاية عني أم أني أسات الأدب معه ولم أرفعه في مجاملاتي إلى عظيم قدره؟ هل أنا بالفعل رغم كل تقييماتي السنوية السابقة أصبحت فاشلًا؟
تذهب المعلمة إلى حصّتها لتجد أخرى قد عُيّنت بدلًا منها، دون أن يخبرها أحد بذلك!
تسمع عجبًا عُجابًا عندما تسمع عن مدرسة خاصة تذهب المعلمة إلى حصتها الرابعة لتجد معلمة قد عُيّنت بدلًا منها، ولم يتنازلوا عن عروشهم السامية مشكورين لتبليغ المعلمة قبل أيام أو حتى يوم واحد مثلًا من هذا الفصل التعسفيّ، لا بأس عليهم هم يعرفون القانون جيّدًا وقد اتفقوا معها على أن تُسجل عندهم متدربة حتى إذا فصلوها لا يتحمّلون أيّ تبعات قانونية. يعرفون كيف يتحايلون على القانون وحقوق موظفيهم. لديهم خبرة في ليّ أعناق نصوص القانون.
هل تصدقون أن هناك مدارس عريقة مؤسسة منذ عشرات السنين ولديها كادر تعليميّ كبير، ولا يجد المعلم فيها تأمينًا صحيًا، ممنوعٌ عليه أن يمرض، وإن مرض عليه أن يعالج نفسه بوصفات شعبية أو خبرات المدرسين في الطب، أو أن يذهب للصيدلي ليوفّر كشفية الطبيب لأنّ راتبه "الملعون فاطسه" لا يحتمل مثل هذه الرفاهية وفخفخة زيارة عيادة طبيب.
على المُعلّم أن لا يمرض!
وعلى المعلم أن يذهب إلى ورشات البناء صيفًا، لأنهم لا يصرفون له راتبه في العطلة، ويقضي الصيف وهو يتنفس أمل تجديد العقد له، ينتهي العقد مع آخر امتحان يقدّمه الطلاب ويبدأ من جديد مع أول يوم في السنة الدراسية القادمة، وإذا جاءهم من يبدأ القصة من جديد ينهون عمل الأول بكل بساطة، ليذهب إلى عرض نفسه وخبراته ويسعى في مناكبها ليعيد السيناريو مع مدرسة خاصة ثانية قد تتلمذت على ذات الطريقة المستبدة. فإذا عيّنته مدرسة قضى العام الدراسي فيها وهو يسمع سيمفونية: "البلد مليانة مدرسين ومدرسات.. آلاف يتمنون وظيفتك".
وتزامنًا مع سماع أخبار الاحتجاجات على قانون الضمان الاجتماعي، تجد في تلك المدارس الخاصة من يفكّر الآن في إنهاء خدمات أصحاب الرواتب العالية (من 3-4 آلاف شيقل!) ليستبدلهم برواتب لا تتجاوز الألفي شيقل، فهذا أوفر لهم في ما سيُدفع للضمان الاجتماعي من حصة صاحب العمل، ومنهم من يرتّب لخصمها من رواتب المعلمين.
في ظلّ هذا الرحى القاسي يُطلب من المعلم أن يصنع الجيل القادم!
المعلمون والمعلمات في هذه المدارس الخصوصية لا بواكي لهم، هم بين مطرقة صعوبة التوظيف في مدارس الحكومة وسندان السحق والاستغلال من قبل المدارس الخاصة. وفي ظلّ هذا الرحى القاسي يُطلب من المعلم أن يصنع الجيل القادم، أنّى له ذلك وأنّى لنا أن نستأمن أبناءنا لهذه المدارس التي تضع المعلم في مكابسها الخاصة وتقولبه مسخوطًا مقهورًا في قبضتها، ثم تطلب منه أن يُبدع وأن يزيّن شهادات خريجيه بالعلامات العالية المزوّرة. يريدونه كسارق الورق في لعبة الباصرة.
ما يجري من إهانة للمعلم ومهنته في المدارس الخاصة يفوق الوصف، وهذا غيض من فيض، وعلى مُلّاك المدارس الخاصة أن يُخفضّوا من جشعهم، وأن يتقوا الله في من وكلوه بأبناء شعبهم.
وعلى المستوى الرسمي أن ينظّم علاقة العمل هذه بما تحفظ كرامة المعلم وحقوقه، وعلى المعلمين ونقاباتهم أن يُعلوا صوتهم، وأن لا يرضوا الدنية في عملهم. وبالفعل يجب أن يُقال: متى استعبدتم المعلمين وقد ولدتهم أوطانهم أحرارًا؟ فالتعليم مهنة مقدّسة عظيمة وليست لعبة باصرة بأيدي مُلّاك المدارس الخاصّة.
اقرأ/ي أيضًا: