24-نوفمبر-2017

يبقى سلاح الوعي آخر ما يمتلكه الفلسطيني للدفاع عن أرضه ووطنه

من بين العديد من القضايا التنموية على الساحة الدولية، يحظى التعليم، بسجالٍ واهتمام في الأوساط الاجتماعية والسياسية والأكاديمية حتى يومنا هذا، وعلى الساحة الفلسطينية، ظلّ التعليم، موضوعًا نقاشيًا قائمًا، نتيجة لعدم تلبية محتوى المناهج الدراسية وأساليب التدريس في المدارس والجامعات، للتحديات التي يفرضها الوضع الاستعماري الراهن، الذي تعاظمت إشكالياته بعد ربع قرنٍ على الفشل السياسي.

 رغم ما تطرحه تقارير المنظمات الدولية، أنّ ارتفاع مستوى التعليم يُسهم في التنمية والتحرر، نجد أن الحالة الفلسطينية، رغمًا عن كونها تحظى بمراتب متقدمة في التعليم، إلا أنها لم تر لا التنمية ولا التحرر!

يمكن الأخذ بتقارير المنظمات المحلية والدولية على محمل الجدّ، فهي تُظهر أنّ التعليم في الضفة الغربية وقطاع غزة في أفضل حالاته اليوم، إذا علمنا أننا نحتل، أقل معدلات أميّة في المنطقة العربية والعالم بنسبة تصل إلى 3%، وأعلى نسبة متعلمين على مستوى المنطقة والعالم بنسبة تصل إلى 96%. إذا افترضنا جدلًا بتصديق ما تطرحه تقارير المنظمات الدولية، أنّ ارتفاع مستوى التعليم يُسهم في التنمية والتحرر، نجد أن الحالة الفلسطينية، رغمًا عن كونها تحظى بمراتب متقدمة في التعليم، إلا أنّها لم تر لا التنمية ولا التحرر. وبالتالي، تدعونا هذه الأرقام للشك إمّا في صحة الطرح أو في صحة الإحصاءات، وفي الحالتين، تبقى النبوءة القائلة "مجتمع متعلم" في الضفة الغربية وقطاع غزة مثارًا للعديد من التساؤلات.

التعليم كمدخل للتبعيّة

سعى المحتل منذ نكبة العام 1948 إلى تشظية الإنسان الفلسطيني، وذلك لخلق فلسطيني مشتت ومجرّد من هويته، وبهذا تلقى الفلسطينيون في مدارس الأرض المحتلة عام 48 تعليمهم بمنهاج يتحكم به المحتل، وساد التعليم المصري في قطاع غزة، والأردني في الضفة الغربية، وتوّلت الأونروا تعليم اللاجئين في مخيمات الداخل والخارج.

واستمرت سلطات الاحتلال بعد حرب 1967 مرتكزة على الأوامر العسكرية، بالسعي إلى خلق قطاع تعليم مدرسي تابع، لضمان مصالحها السياسية والاقتصادية، حيث قامت بإغلاق العديد من المدارس واعتقال الطلبة والكوادر التعليمية، وكما سعت إلى تقليل موازنة التعليم المدرسي وإخضاعه لسياسة التجهيل، مما ساهم في رفع مستوى التسرب من المدرسة.

اقرأ/ي أيضًا: التعليم المهني بغزة.. بوابة فرص

حتى بداية السبعينيات؛ بتأسس أول جامعة وطنية، يصعب استخدام التعليم كمحفز لعملية التغيير الوطني والاجتماعي، لعدم وجود جامعات ومعاهد، ولأن التعليم الجامعي قبل ذلك الحين، اقتصر على طبقة اقتصادية ضيقة. فتأسيس الجامعات الفلسطينية؛ كحاجة مجتمعية لمؤسسات وطنية في الأرض المحتلة عام 67، أسهم من جهة، في انطلاقة حقيقية لانخراط الطلبة في النضال ضد المحتل، ولكنّه من جهة ثانية، أضاء على التبعية الاقتصادية للاقتصاد الإسرائيلي وارتفاع معدل الهجرة الطوعيّة. من الضروري، عند هذه النقطة، التأكيد على أن تجريد الإنسان الفلسطيني من حقوقه وحرياته السياسية والاجتماعية والثقافية منذ النكبة، كرّس حالة "الاستلاب" للإنسان الفلسطيني كما يراها يوسف صايغ.

في الضفة الغربية وقطاع غزة، عملت سلطات الاحتلال بعد حرب 67 على إحداث تغييرٍ بنيوي في تركيبة الاقتصاد الفلسطيني، فرغمًا عن ظهور العديد من المدارس والجامعات التي عملت على تعزيز الاعتماد على الذات، إلا أنها لم تسهم بشكل حقيقي في الخروج من حالة التبعية، التي عززها المحتل خلال فترة احتلاله، فخريجو الجامعات كانوا أمام مسارين، العمل في إسرائيل أو الهجرة، وذلك لأن سوق العمل المحلي المحدود في قطاعيّ الصناعة والزراعة لا يمكنه استيعاب خريجي الجامعات.

وتفيد الأرقام للاستدلال على حالة التبعية، بأن الاستثمار في قطاعيّ البناء والخدمات (قطاعات لا تحقق تنمية) أعلى من الاستثمار في قطاعيّ الصناعة والزراعة، حيث أن الناتج المحلي الإجمالي في قطاعيّ البناء والخدمات ارتفع من 55% في العام 1968 إلى 66% في العام 1983 (Hillel Frisch, 1983)، وفيما يتعلق بمعدلات الهجرة، تشير التقارير إلى أن قرابة 10,000 شخص سنويًا هاجر من الأرض المحتلة بين الأعوام 1967 و 1974، وارتفع العدد إلى 15,000 حتى العام 1985 (أنطوان منصور، 1989). يمكن القول إن سياسات المحتل أدت إلى تَغيُّرٍ مُعاكسٍ في الحالة الفلسطينية، مما كرس حالة من اللا تنمية واللا تحرر.

أوسلو: كلّنا خاسرون من الوضع الراهن

فلسطينيًا في الضفة الغربية وقطاع غزة، لم تكن السلطة الفلسطينية منذ نشأتها في العام 1994، بمعزلٍ عن تأثير سياسات الليبرالية الجديدة، التي وقعت فيها تحت تأثير المؤسسات الدولية والدول المانحة. لهذا لم يكن التعليم بمنأى عن خصخصته وتسليعه، مما أدى في بعض المدارس والجامعات لتعزيز الأبعاد التجارية، وقد تعزز ذلك من خلال الأزمة المالية التي تعيشها المدارس والجامعات وقطاع التعليم بشكل عام.

إنّ الطلبة في المدارس أقلّ المستفيدين من هذا التعليم، فرغمًا عمّا تطرحه التقارير المحلية بارتفاع معدل الطلبة الملتحقين بالمدارس بنسبة 50% منذ إنشاء السلطة الفلسطينية، إلا أنّ التعليم المدرسي يمر بتحديات صعبة، فمن جهة ساهمت خصخصة التعليم في تقسيم المجتمع إلى محظوظين للدراسة في مدارس خاصة وآخرين غير محظوظين للدراسة في مدارس حكومية أو تابعة لوكالة الغوث وتشغيل اللاجئين.

ومن جهة ثانية لم يسهم التعليم المدرسي في تنمية التفكير المرتبط بالنقد والمنطق، حيث استمر قطاع التعليم عمومًا في ظل السلطة الفلسطينية، باتباع سياسة التركيز على التعليم بالتلقين التي سارت عليها أنظمة الحقب المتعاقبة على الأرض المحتلة، حتى أصبح نظام التعليم القائم دالة لنظام السلطة المهيمن.

ساهمت خصخصة التعليم في فلسطين في تقسيم المجتمع إلى محظوظين درسوا في مدارس خاصة وآخرين تلقوا تعليمهم في مؤسسات حكومية أو تابعة للأونروا

ومن جهة ثالثة، تبقى المناهج الفلسطينية تجربة متعثرة، كوّنها عرضةً لرقابة السلطة وتدخل المحتل ومؤسسات الدعم الدولي، وعليه بات المنهاج الفلسطيني، بشكل أو بآخر متأثرًا بسياق السلام والمفاوضات وذلك هروبًا من تهمة التحريض، ومستجيبًا لضغط المؤسسات الدولية الخارجية لضمان عدم خلق "ثقاقة معادية" (آيات حمدان، 2010). بالمجمل، استغل المحتل منذ أوسلو، التعليم للتأثير على حق الشعب الفلسطيني في النضال الوطني وتقرير مصيره.

اقرأ/ي أيضًا: منهاج فلسطيني "مخنوق" بسبب أوسلو وأموال المانحين

في الجامعات، أقرّت السلطة الفلسطينية في قانونها الأساسي المعدل عام 2003، مجانية التعليم في المعاهد والمؤسسات العامة، إلا أنّ ضعف مخصصات التعليم العالي في مقابل قطاعات أخرى كالأمن، تفيد إلى أن السلطة لم تلتزم بالتعليم المجاني. وكمّا تثني التقارير المحلية دومًا بزيادة عدد الطلبة الملتحقين في الجامعات من 25 ألف في العام 1993 ليصل إلى 218 ألف طالب خلال ربع قرن، وتمدح أيضًا الارتفاع الملحوظ في عدد الجامعات في الضفة الغربية وقطاع غزة. ولكن المتفحص لتقارير مخصصات موازنة السلطة الفلسطينية، يرى أن قطاع الأمن يستحوذ على نصف موظفي القطاع العام، ويتلقى نحو مليار دولار من موازنة السلطة الفلسطينية، بما يشكل 30% من مجموع المساعدات الدولية، وبهذا تفوق حصة قطاع الأمن قطاعات كالتعليم والصحة والزراعة مجتمعة (علاء ترتير، 2017).

وفي إطار بحثه لمساق "فلسطين: الهوية والقضية" كمساق جامعي إلزامي وغيرها من المساقات التي تعيد الاعتبار للتجزئة الجغرافية التي يعيشها الفلسطيني، يرى عبد الرحيم الشيخ أن "الجامعة كموقع لإنتاج المعرفة، وممارستها، والمشاركة نقديًّا فيها، لم تسهم في تدشين سرديّة وطنية فلسطينية" ويشير الشيخ إلى لاءات ثلاث، لا مفرّ من التعامل معها إذا أردنا صياغة السّرديَّة الوطنية الفلسطينية، وهي "لا سرديّة بلا ممارسة؛ ولا سرديّة بلا مواجهة؛ ولا سرديّة بلا مقارنة".

اقرأ/ي أيضًا: "المدنيات".. نكبة تعليمية في فلسطين

وفي سياق مجالات الدراسة وعلاقتها بسوق العمل للأفراد، تشير الأرقام الواردة عن الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني للعام 2016، أن تخصصات الأعمال التجارية والإدارية تستأثر النسبة الأعلى بنحو 25%، يليها علوم تربوية وإعداد معلمين 15%، في مقابل 9% للعلوم الاجتماعية و13% للتخصصات العلمية.

لا يقبل الطلبة الفلسطينيون على تخصصات العلوم الاجتماعية نظرًا لمعدل البطالة المرتفع بها والذي يتجاوز تخصصات الخدمات والقانون والصحة

وبالرغم من أنّ تخصصات الأعمال التجارية والاقتصادية تحظى باهتمام لدى الفلسطينيين، إلا أن الوضع الاقتصادي الراهن يشير إلى أننا لا زلنا نعيش أزمة اقتصادية وتنموية. في المحصلة فإن عزوف الطلبة عن التخصصات التي تسهم في التحرر الفكري وتعزيز هوية ومكانة ووجود الإنسان في المجتمع يعود إلى أن معدل البطالة في تخصصات العلوم الاجتماعية يصل إلى 65% في مقابل 23% لتخصصات الخدمات الشخصية والقانون والصحة.

أين نحن، وماذا نريد؟

إنّ جذور التعليم من أجل التحرر والتنمية مفقودةٌ في الحالة الفلسطينية، فنظام التعليم القائم ولّد نظامًا تعليميًا تقليديًا، فاقم من عجز الإنسان الفلسطيني بتقرير مصيره، فمن جهة، لم يسهم في التصدي لهيمنة المحتل، ولم يمكّن الفلسطيني من إيجاد حلولٍ لحالة التشتت الديمغرافي التي لحقت به منذ النكبة، ومن جهة ثانية تغاضى عن الاستخدام غير المشروع للسلطة منذ أوسلو، وعليه، أضحى الفلسطيني أمام نظامٍ تعليمي يعزز المؤهلات الفردية للانخراط في إعادة إنتاج السلطة القائمة. في نهاية المطاف، لم يسهم التعليم القائم، في خدمة الهدف التنموي والتحرري والنقدي المساهم في الحريّة والتحرر من الاحتلال المعرفي.

ولذلك، فالمطلوب مقاومة نظام التعليم القائم وفق أسس "التعليم التحرري" والتأسيس لتعليمٍ مقاوم، يرتكز على التشاركية بين المُعلم والمتعلِم؛ للوصول إلى المعرفة بدون تحكم السلطة، وتعليم يلغي التمييز والإقصاء القائم على توظيف السلطة لمعرفتها، وتعليم يعزز من التجاوب من أجل رفع مستوى قدرات المجتمع المحلي، وتعليم يتصدى لتدخل المؤسسات الدولية والدول المانحة.

من الضروري التأسيس لتعليمٍ مقاوم في فلسطين يرتكز على التشاركية بين المُعلم والمتعلِم للوصول إلى المعرفة بدون تحكم السلطة

إن هذا التعليم بات واجبًا للشعب الفلسطيني وللشعوب التي تسعى إلى الحريّة. وبالتالي، لا بد من التصدي لسياسات التعليم التي تخدم في الأساس مصلحة المستعمِر. لذا بات من الضروري إعادة التفكير بأطروحات خليل السكاكيني التي تحث على "رفض التعليم التلقيني، واحترام الوعي والعقل، وتشجيع القراءة الحرة، وتمكين التعليم المرتبط بقضايا الوطن والمجتمع" وله في ذلك العديد من المؤلفات من أبرزها "الجديد في القراءة العربية" ويقع في أربعة أجزاء (القدس، 1924 و1933). و"الأصول في تعليم اللغة العربية" الدليل الأول الثاني (القدس، 1934و1936).

في ظل هذه المرحلة الحرجة التي تعيشها القضية الفلسطينية، يبقى سلاح الوعي آخر ما يمتلكه الإنسان الفلسطيني للدفاع عن أرضه ووطنه، ولهذا بات من الضروري البحث عن تعليم يؤدي إلى الحريّة لا تعليم يكرس النظام القائم. وبسؤال موجز، متى يحن الوقت لبناء التعليم الذي نريد؟


اقرأ/ي أيضًا:

فيديو | الداخل الفلسطيني: تجهيل الطلاب وأسرلة التعليم

طلاب أجانب في غزة: هنا ما يستحق الحياة!

مدرسة "الخان الأحمر".. هل يقول طلبتها وداعًا؟