بناية زجاجية باهتة، في نهاية الطريق المار بجانب مبنى المقاطعة في رام الله، على أطرافها عناصر أمن يحرسون مبنى رئاسة السلطة الفلسطينية، خارج الطريق المغلق أمام المركبات، تقع منظمة التحرير الفلسطينية، أو ما صارت عليه منذ 30 عامًا، مجرد هامش أمام متن السلطة.
وعلى نمط الكثير من الأشياء في فلسطين، فإن الرمز وإن صارت له حياة منفصلة، لا يزال يكشف الكثير عن الواقع، فمنظمة التحرير خسرت الكثير من مكانتها السياسية في السياق الفلسطيني بعد أوسلو، وتحولت إلى مجرد بناية إضافية للنظام السياسي القائم في واقع متقلب.
وفي بحثها عن دولة، فقدت المنظمة الكثير من دورها وحضورها ووظيفتها ومعنى اسمها، قبل إنجاز "المهمة"، إذ تلاشى دورها، وهمشت مكانتها السياسية، وصارت سفاراتها وممثلياتها في العالم، سفارة لدولة فلسطينية مبتورة وغير ناجزة، وفي لحظة كانت على وشك أن تصير مؤسسة داخل "الدولة" حتى بالمعنى القانوني.
النقاش الدائر حاليًا عن منظمة التحرير الفلسطينية وضرورة إعادة تفعليها وتوسيع تمثيلها وتعريف دورها السياسي ودمقطرتها، لم يبتعد كثيرًا عن سيرة منظمة التحرير ودورها التاريخي، بوصفها مكانًا جامعًا للشعب الفلسطيني، وفضاءً عموميًا عامًا
أمّا الدور الأهم المفقود لمنظمة التحرير، أو المغيب، فهو غالبًا ما تعودته الأذن مباشرة بعد اسمها؛ "الممثل الوحيد للشعب الفلسطيني" في كافة أماكن تواجده، وهو دور لا يقتصر على مجرد التمثيل بالمعنى القانوني للكلمة، بل بوصف المنظمة ساحة للنقاش السياسي، وساحة للمساهمة في بلورة والتوافق على تصور وطني، في لحظة هي الأصعب في تاريخ الشعب الفلسطيني.
منذ تأسست المنظمة، في إطار الصراعات السياسية العربية، تحولت إلى مركز للنقاش السياسي العام، ففي طورها الأول، ورغم معارضتها من قبل الفصائل الفلسطينية، إلى أنها كانت موقعًا أساسيًا للنقاشات العمومية، وكانت العلاقة معها موضع تأثر، إذ شكلت الفصائل الفلسطينية، وعلى قاعدة النقاش والمجابهة مع قيادة المنظمة حينها، بياناتها وبرامجها السياسية.
وبعد سنوات قليلة، تمكنت الفصائل الفلسطينية، وفي أعقاب معركة الكرامة، من الدخول والسيطرة على منظمة التحرير، لتصير نفسها تُعرف باسم "فصائل المنظمة"، بعد سنوات التسعينات. وطوال سنوات، صارت المنظمة موقع الخلاف والنقاش السياسي، ومجالسها الوطنية ساحة سجال سياسي، وعرض للمواقف.
وفي ظل شتات فلسطيني، فإن قيمة منظمة التحرير، وبالأخص في مجالسها الوطنية، كانت الفضاء العام الفلسطيني، الذي غاب عن أرض الواقع، وصار يتحقق في جلسات ومؤتمرات تعقد في البلدان العربية.
ورغم وجود قيادة مهيمنة على المنظمة، وهذا لم يتحقق لها بسلاسة وهدوء، إلّا أنّ القرارات كانت تحتاج فعلًا إلى إجماع، استخدمت فيها أدوات سياسية عدة، وكانت الفصائل التي غابت لسنوات عن المنظمة، على خلفية مواقف سياسية قد عادت إليها، بعد تسويات ومساومات.
كل ما سبق غاب، منذ جلسة المجلس الوطني الشهيرة وبحضور الرئيس الأميركي بيل كلينتون، الذي جاء لحضور جلسة تعديل الميثاق الوطني وافتتاح مطار غزة الدولي. كانت تلك علامة على نهاية حضور المنظمة في المجال العام الفلسطيني، فتعديل الميثاق الذي حصل على عجل، استجابة لمطلب استمرار التفاوض مع إسرائيل، أقر فكرة التعديل دون الخوض في التفاصيل، وتركت المهمة للدوائر التقنية.
ومنذ ذلك الحين، سلمت منظمة التحرير عهدتها للسلطة الفلسطينية، وتنازلت عمّا تبقى من دورها حتى مما لا تستطيع السلطة الفلسطينية حمله، وبالأخص العلاقة مع الفلسطينيين في الشتات، وداخل الخط الأخضر. كان التحول سريعًا على مستوى المسؤولية السياسية، فيما احتاج وقتًا في الدوائر واللجان، التي أصبحت بلا دور تقريبًا، باستثناء دائرة شؤون المفاوضات، التي تأسست أصلًا بعد توقيع اتفاقية أوسلو، والتي فقدت دورها نتيجة رفض إسرائيل التفاوض مع السلطة الفلسطينية منذ 10 أعوام.
على امتداد السنوات الماضية، تحولت المنظمة إلى أداة تستخدم في مواجهة أي تحديات سياسية للقيادة المهيمنة، فأصبحت مهمة مجددًا بعد انتخابات 2006، ويتكرر ذلك مع كل خلاف أو تصريح سياسي لا يعجب قيادة السلطة، عبر استخدام مخصصات الفصائل في المنظمة كأداة ابتزاز سياسي.
إن النقاش الدائر حاليًا عن منظمة التحرير الفلسطينية وضرورة إعادة تفعليها وتوسيع تمثيلها وتعريف دورها السياسي ودمقطرتها، في ظل حرب إبادة مفروضة على قطاع غزة، وعدوان متواصل على الضفة، ومحاولة تصفية الشعب الفلسطيني بالمعنى السياسي تحت عنوان خطة "اليوم التالي"، لم يبتعد كثيرًا عن سيرة منظمة التحرير ودورها التاريخي، بوصفها مكانًا جامعًا للشعب الفلسطيني، وفضاءً عموميًا عامًا.
ما سبق، هو الموقع الذي احتلته منظمة التحرير في المجال السياسي الفلسطيني، بعيدًا عمن يقودها ويهيمن عليها، ويمتلك أدوات النفوذ فيها. والنقاش القائم حاليًا، في ظل هذه التحديات التي تحيط بقضية فلسطين، لم يحد عن التصور الأول للمنظمة، مع اختلاف اللغة والسياق، ومع ذلك، فسرعان ما تحال أي محاولة استعادة لدور منظمة التحرير من قبل أجهزة السلطة الإعلامية باعتبارها انقلابًا على هذا الدور.
التصور السابق لم تبتعد عنه أهداف "المؤتمر الوطني الفلسطيني"، الذي ينطلق عبر جهود شخصيات فلسطينية متنوعة بصفتها المستقلة من تشخيص الواقع الفلسطيني، وهو واقع من الأصعب في تاريخ الشعب الفلسطيني، طارحًا جوابه بالحاجة إلى جسم تمثيلي جامع، يواجه التحديات المفروضة على الشعب الفلسطيني، والتفاهم الأميركي- الإسرائيلي، عبر تصور فلسطيني، يتبلور داخل جسم تمثيلي واحد ومتوافق عليه. بمعنى آخر، هو محاولة لاستئناف الدور التاريخي لمنظمة التحرير.
يُثار الهلع في رام الله، مع كل نقاش عام عن منظمة التحرير، ومن المشكوك في كون هذا النقاش يرتبط بـ"القلق" على مكانة وحضور المنظمة، التي غيبت ضمن سياق ممنهج، فمن يهتم بالمنظمة حقًا، ويدرك التحديات المحيطة في قضية فلسطين، كان من المفترض أن يكون هو المبادر لإعادة تفعيلها.
والأمر لا يقتصر على التمثيل، إذا إن المطلوب ليس دخول فصائل فلسطينية وطنية للمنظمة فقط، بل إيجاد جسم تمثيلي أوسع، يضم شخصيات مستقلة مثقفة وناشطة في المجال العمومي، وهيئات فلسطينية ناشطة، وتفعيل النقابات واستعادة دورها، بما يتوافق مع واقع القضية الفلسطينية اليوم. والأمر يحتاج إلى نظرة على استطلاعات الرأي الأخيرة، لا لفحص تمثيل الفصائل في سياق مناكفة سياسية، بل البحث عن التصورات السياسية وسؤال التمثيل، لإدراك ضرورة حراك شعبي، يساهم في حالة تستعيد دور المنظمة، التي حصلت عليه بتضحية فلسطينية هائلة، وهي ضرورة اليوم لعدم إهدار التضحية الفلسطينية المستمرة في غزة، وأولًا من أجل وقف المعاناة وحرب الإبادة، ومواجهة الطرح الأميركي والإسرائيلي لـ"اليوم التالي"، الذي يسعى أساسًا لإنهاء أي حضور سياسي فلسطيني.
على مبنى المنظمة في رام الله، كُتب بالإنجليزية "PLO"، الأحرف التي كانت شعارًا سياسيًا صارت لافتة على بناية، وما يحدث الآن هو محاولة جديدة لاستعادة السياسة في المنظمة، لا المحاصصة السياسية فيها ولا الصراعات التي تدور حولها، بكونها فضاءً عامًا قادرًا على صياغة تصورات فلسطينية موحدة.