لدى التعرض لمفهومين من نوع التعليم والتنمية، بقدر ما فيهما من عمومية واشتمال على زوايا عديدة، فإن بعض الخطوط والتساؤلات لا يمكن إنكارها إذا ما أريد التطرق لموجبات علاقة من هذا الشكل. فكيف إذا ما تم أخذ المفهومين ضمن السياق "التنموي" في فلسطين، الذي تشوبه عديد من التشوهات والانحرافات، وما يتم الادعاء بتوافره من إمكانات التنمية وعلاقتها بفضاءات التعليم.
انطلاقًا من القاعدة البنيوية القائلة بضرورة تجديد وسائل الإنتاج لكي يصبح الإنتاج ممكنًا، يتضح ما يمكن أن يكون مدخلًا لتناول التعليم في مقابل التنمية، وبحسب لويس ألتوسير فإن "الشرط الأخير للإنتاج هو تجديد شروط الإنتاج"، ويمكن أن يكون الإنتاج متمثلًا في مخرجات العملية التعليمية التي تستفيد مما توفره السياسات والبرامج التنموية، وقد يكون العكس هو الصحيح، أي أن يكون الإنتاج هو ما يرفد العملية التنموية من قطاع التعليم ومخرجاته. وبالعودة إلى ألتوسير يبرز تصنيفه المدرسة ووحدات التأهيل التعليمي من جامعات ومعاهد عليا ومهنية ضمن منظومة جهاز الدولة الأيدولوجي، بمعنى خضوعها لاستخدام جهاز الدولة، أو من يمتلك مساحة السيطرة على الجغرافيا المسيطر عليها، في حالة المشرق العربي ما بعد "داعش" مثلًا.
لا يمكن التعاطي مع التنمية كجملة من الآليات والسياسيات فقط فهي عملية تاريخية
يتوزع حقل التعليم المدرسي فلسطينيًا ما بين الحكومي والقطاع الخاص، إضافة إلى قطاع ثالث نابع من خصوصية السياق الاستعماري في حالة الفلسطينيين، أي المدارس التابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين "أونروا"، هذا فيما يتعلق بالضفة الغربية وقطاع غزة، بينما تختلف المقادير فيما يتعلق بالفلسطينيين داخل الخط الأخضر، فتتوزع مدارسهم على قطاعين دون الثالث، هما الخاص والحكومي، وبالطبع فإن الحكومي خاضع كلياً للمؤسسة التربوية الإسرائيلية، وهذا منبعه عدم اعتبار الفلسطينيين في هذه المناطق لاجئين، حتى المهجرين خارج قراهم ومدنهم الأصلية.
بالعودة إلى التنمية، يمكن التعاطي وإياها بوصفها جملة من الجهود المنظمة تبذل وفق تخطيط مرسوم للتنسيق بين الإمكانيات البشرية والمادية المتاحة في وسط اجتماعي معين، ويرتبط هذا التخطيط بتحسين الشروط المعيشية للسكان، ومنها مستوى الدخل، فردياً وقومياً، ومنها أيضاً تحقيق شروط أفضل في قطاعات مثل التعليم والصحة ورعاية الشباب، سعياً وراء إنجاز مستويات متقدمة في معادلة الرفاه الاجتماعي. ولكن لا يمكن التعاطي مع التنمية كجملة من الآليات والسياسيات فقط، فهي عملية تاريخية أكثر منها حالة، أو جهد يبذل في أحد المجالات ضمن سياق زمني أو غائي محدود.
يتغلب" الأمن" فيما يخصص له من ميزانية على باقي قطاعات إنفاق السلطة الفلسطينية
ولأجل فهم تقابلية التعليم والتنمية ضمن السياق الفلسطيني، يتوجب الربط بين معيقات التعليم والتنمية فيه، بعد الإقرار أن أبرز ما يحكم العملية هو سيطرة إسرائيل على مجمل مفاصل الحياة فلسطينيًا، وهي التي ترتبط بمعدلات الزيادة السكانية ومعدلات الإنجاب، إذ تصنف من الأعلى عالميًا، وما تفرضه هذه الزيادة من متطلبات متصاعدة، ويفترض أن لا يغيب عن البال حال التفاوت في النمو والتنمية ما بين ريف ومخيّمات ومدن الضفة الغربية وقطاع غزة، والتفاوت في الاهتمام وضخ الممولين لطاقاتهم المادية ما بين المدن نفسها.
وفي جانب التعليم نقف أمام القصور في الحقل التعليمي من ناحية الميزانيات المخصصة من قبل السلطة الفلسطينية، إذ يتغلب "الأمن" فيما يخصص له من ميزانية على باقي القطاعات التي تنفق السلطة أموال التمويل عليها، دون إغفال مصيبة المناهج الفلسطينية، التي صُفت ووضعت وفق ما راق لأموال الممولين في عقد التسعينيات، الذين هيمنوا على مجمل المقولة التي تقدمها المناهج الفلسطينية، فبحسب أحد من شاركوا في صياغىة مناهج اللغة العربية لطلبة الضفة الغربية وقطاع غزة، فإن "الآيات القرآنية والقصائد التي تتعرض لمفهوم الجهاد وقتال الأعداء والحرب، كانت من المحرمات أثناء صياغة المناهج"، كما أن هذه المناهج تتعاطى مع السلطة الفلسطينية والمعازل العنصرية "بانتوستونات" التي تتواجد فيها، وفق مفهوم الدولة الناجزة، وتغفل كل ما تبقى من فلسطين، فأصبح الساحل الفلسطيني محصوراً بغزة، كأن حيفا وعكا مدن ساحلية لدى دولة جارة، وليست مدناً فلسطينية تم استعمارها وطرد أهلها منها.
وفق هذه الحال يستحيل ربط التعليم بالتنمية مفهومًا وطنيًا، هذا في حال حضور التنمية ضمن سياق طبيعي غير شائه ومموه ومسيّس، وهذا ما لا يتوفر فلسطينيًا. وإذا ما أريد إتمام العمل التنموي في قطاع التعليم وإرساء تعليم ديمقراطي وطني تنموي فاعل، فإن هذا غير ممكن في ظل عدم طرح التصدي للعسف الاستعماري كأولوية.