عندما ظهر الحراك الشعبي "بدنا نعيش" في قطاع غزة، جاءت ردة فعل السلطة القائمة في القطاع لتقول إن "هذا الحراك يستهدف المقاومة الفلسطينية، وعلى الجمهور أن يعي أن سبب الجوع والفقر وسوء الأحوال التي تسود قطاع غزة هو الاحتلال الإسرائيلي، وعلى الناس أن تتحمل الجوع والفقر وأن لا تنخرط في أية احتجاجات من شأنها أن تمس بكرامتهم، فالكرامة أغلى ما يملكه الناس ولا يجوز أن نتخلى عنها بأفعالٍ احتجاجية تبهج صدر العدو، وعلى الشعب أن ينصاع للقدر المعيشي المكتوب له"، وبذلك خلطت بين كرامة الناس والمقاومة، رغم أن المقاومة هي وسيلةٌ من أجل الكرامة، لكنها ليست الكرامة بعينها، ولا يمكن أن تكون الوسيلة هدفًا.
الفقر والجوع هما عدو الكرامة الإنسانية، ولا يمكن أن تتحقق الكرامة الإنسانية في ظلهما
الصورة ذاتها -وإن كانت بحدةٍ أقل حتى هذه اللحظة- مرسومة في الضفة الغربية التي تعيش ظروفًا اقتصادية سيئة أصلاً، تزداد سوءًا في كل يومٍ مع انقطاع الرواتب، وخطاب السلطة الرسمية يدعو الناس إلى التحمل لمواجهة المخاطر السياسية المحدقة بالقضية الوطنية، وعلى الجمهور أن يحتمل الجوع والضيق حفظًا لكرامته الإنسانية، وكأن الكرامة الإنسانية تتحقق بالجوع والفقر وانتشار البطالة بين الناس؛ والقبول بها أعلى مستويات التضحية وعنوان الكرامة الإنسانية، وهذا فهمٌ خاطئٌ وغير صحيح، فالفقر والجوع هما عدو الكرامة الانسانية، ولا يمكن أن تتحقق الكرامة الإنسانية في ظلهما.
اقرأ/ي أيضًا: هيئات الدولة أم الفيسبوك؟!
بدأ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ديباجته بالقول "لما كان الاعتراف بالكرامة المتأصلة في جميع أعضاء الأسرة البشرية وبحقوقهم المتساوية الثابتة هو أساس الحرية والعدل والسلام في العالم. ولما كان تناسي حقوق الإنسان وازدراؤها قد أفضيا إلى أعمال همجية آذت الضمير الإنساني، وكان غاية ما يرنو إليه عامة البشر انبثاق عالمٍ يتمتع فيه الفرد بحرية القول والعقيدة، ويتحرر من الفزع والفاقة. ولما كان من الضروري أن يتولى القانون حماية حقوق الإنسان لكيلا يضطر المرء آخر الأمر إلى التمرد على الاستبداد والظلم".
الديباجة ربطت بين خيارين أساسيين لا ثالث بينهما، إما الكرامة والحقوق المتساوية باعتبارها أساس الحرية والعدل والسلام، وإما التمرد على الاستبداد والظلم". وحسم الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بصورةٍ قاطعةٍ أن التمرد على الاستبداد والظلم هو الطريق المتاح لتحقيق الكرامة الإنسانية، وأية محاولة لتسويق أن التمرد على الجوع يتناقض مع كرامة البشر هو تسويقٌ متناقضٌ مع المبادئ والقيم العليا التي وصلت إليها البشرية عبر التاريخ، وهذا أمرٌ اتفقت عليه الأمم وأقرته، فكرامة الإنسان أساس ضمان حقوقه.
قد يقول قائل إن هذا صحيح، لكنه ينطبق على الشعوب المستقلة، ولا يمكن تطبيق ذلك على الشعب الفلسطيني، فنحن شعبٌ لا زلنا نعيش تحت الاحتلال الاسرائيلي، والتمرد يجب أن يكون على الاحتلال وليس على السلطات الحاكمة في الضفة الغربية وقطاع غزة، فلا يجوز أن نحمل أو أن نسائل السلطتين الحاكمتين للضفة وقطاع غزة عن أية مسؤولية عن الجوع، فكلاهما خاضعتان للاحتلال، ولا سيادة على الأرض، وبالتالي لا مسؤولية عليهما.
أتفق تمامًا أن الاحتلال الإسرائيلي هو المسؤول عن كل ما يجري، فهو المسيطر الفعلي على الضفة الغربية وقطاع غزة، وهو المسؤول بموجب القانون الدولي عن مسؤولياته تجاه الشعب المحتل، ومسؤولٌ عن احتياجاته المعيشية -الصحية والتعليمية والأمنية- وكل جوانب حياته، وعليه أن يتحمل هذه المسؤولية، ولم يقرن القانون ذلك بقبول الجمهور بالاحتلال، بل أعطاه الحق بمقاومته بكافة الوسائل الممكنة.
السلطة تتحمل المسؤولية عن إدارة شؤون الناس بموقف اتفاق أوسلو، وحماس كذلك بدخولها انتخابات "التشريعي"
الذي حدث أن القيادة السياسية الفلسطينية حين أنشأت السلطة الفلسطينية بموجب اتفاق أوسلو عام 1993، قبلت بتولي إدارة شؤون الناس نيابة عن الاحتلال، ونقلت بموجب ذلك جزءًا كبيرًا من صلاحيات "الإدارة المدنية" إلى السلطة الفلسطينية، وكلفت السلطة بالمسؤوليات المتعلقة بإدارة شؤون الفلسطينيين التي كانت ضمن مسؤوليات الاحتلال، وخاضت حركة حماس أيضًا في عام 2006 الانتخابات بناءً على الاتفاق المذكور، وتولت الحكم لفترةٍ ثم استولت على مقاليد الحكم في قطاع غزة.
اقرأ/ي أيضًا: الرئيس يبدل أحصنته وسط المعركة.. ما السبب؟
وبالتالي تحملت الحكومتان في الضفة الغربية وقطاع غزة مسؤولية إدارة شؤون الضفة الغربية وقطاع غزة، اللتان لا زالتا تصنفان أرضًا محتلة بموجب القانون الدولي، وأدارتا الحكم نيابة عن سلطة الاحتلال، وعليه يجب أن تكونا دائمًا مستعدتين لتحمل المسؤولية وتلقي المسائلة بقوةٍ مضاعفةٍ ما دامتا قد قبلتا القيام بمسؤولية الحكم تحت الاحتلال، وقبلتا أن تعفيا الاحتلال من مسؤوليته في إدراة شؤون الشعب الذي يحكمه بقوة السلاح، وحررتاه من دفع فاتورة الاحتلال، وحملتا هذه الفاتورة نيابة عنه، ولن يُقبَلَ تهربهما من مسؤولياتهما عن تردي حياة الناس الاقتصادية وانعدام الأمن والأمان على السلطة المحتلة، والطريق الأمثل الذي يمكنهما فعله هو تنفيذ ما هدد به الرئيس محمود عباس أكثر من مرة بإلقاء مفاتيح إدارة الضفة الغربية وقطاع غزة في حضن رئيس الحكومة الإسرائيلية، وتحميل إسرائيل مسؤولية وتكلفة الاحتلال بدل استمرار السلطة بحملها نيابة عنهما.
في حال اتخاذ الفلسطينيين لهذه الخطوة سيجد الاحتلال نفسه غير قادرٍ على تحمل فاتورة الاحتلال فهي مكلفة، وعليه تقع مسؤولية توفير جميع الخدمات، ولا خسارة سياسية للفلسطينيين، فالسلطة ليست دولة، والدولة معترفٌ بها في الأمم المتحدة وليس بفعل وجود السلطة، وستكون الفرصة متاحة لإصلاح منظمة التحرير الفلسطينية، وستبقى تمارس مسؤوليتها في قيادة النضال الوطني وتمثيل الشعب الفلسطيني ورعاية شؤون الأسرى وعائلات الشهداء، ولن تبقى فقط سلطة دفع رواتب نيابة عن الاحتلال، بل بإنهاء السلطة ينتهي الانقسام السياسي، ولن يعود الاحتلال العسكري بذلك إلى قطاع غزة الذي تحميه قوة المقاومة وليس سلطة الإدارة في قطاع غزة. وأي جهة تدعي الحكم بعد خطوة مثل هذه سيلفظها الشعب، ولن يكون مكانها أكثر من المكانة التي حظيت بها روابط القرى في ثمانينات القرن الماضي، وهذه من وجهة نظري المتواضعة الورقة الوحيدة التي يمكنها قلب كل الأوراق السياسية الإسرائيلية رأسًا على عقب، فهي تنهي خيار دولة فلسطينة في قطاع غزة وضماً للضفة في اطار ما يعرف باسم صفقة القرن، لتصبح بموجبها كل الأراضي الفلسطينية أمام ذات الخيار.
أعتقد أن الشعار الذي رفعه الرئيس تجاه قطاع غزة حين فرضت عليه عقوباتٌ مالية، إما استلامًا كاملاً للسلطة في قطاع غزة، أو لا، حريٌ أن يطبق على الضفة الغربية وقطاع غزة مشتركتين، إما سلطةٌ وطنيةٌ واحدةٌ في الضفة الغربية وقطاع غزة لا سلطة للاحتلال عليها، وإما أن يتحمل الاحتلال مسؤوليته كاملة عن شؤون الشعب الذي يحتله ويدفع فاتورة ذلك. سلطةٌ واحدةٌ تحكم الضفة الغربية وقطاع غزة من الباب إلى المحراب بلا احتلال، أو شعبٌ واحدٌ يقاوم الاحتلال، فالتمرد مشروعٌ على من ينكر حقوق الناس، وبذلك يصبح للتمرد وجهًا وطنيًا وزخمًا شعبيًا، وهذا حقٌ كفلته المواثيق الدولية، فلا كرامة في ظل جوع أو انتقاص أي حقٍ من حقوق الإنسان، الكرامة هي الحقوق كاملة.
اقرأ/ي أيضًا:
اقتناص الوظائف العليا في دولة يحدها حزب واحد